للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن عقولهم قد سلّم إدراكها، وتقشعت عنها غشاواتها، وامتد نظرها في الكائنات فأدركت أن لها مبدعا حكيما وخالقا قديرا، جعلها تسير بنظام محكم، فهذه كواكب تظهر وتغيب، وسماء مرفوعة بغير عمد، وأرض راسية لا تميد ولا تضطرب ... صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ فكان من ذلك لتلك العقول براهين قاطعة على وجود خالق مدبر، وحكيم قدير، ومبدع لا تأخذه سنة ولا نوم.

والإيمان بالغيب الذي أخبر به الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم يقوى ويعظم كلما قوى الإيمان في القلوب، واستولى الصفاء على النفوس، وقد مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم المؤمنين بالغيب في أحاديث متعددة، منها ما جاء عن خالد بن دريك، عن ابن محيريز قال: قلت لابن جمعة: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: نعم أحدثك حديثا. تغدينا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال: يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك.

قال: نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يرونى» .

قال ابن كثير: فقد مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرا من هذه الحيثية لا مطلقا «١» .

وأخرج ابن أبى حاتم والطبراني وابن مندة وأبو نعيم عن بديلة بنت أسلّم قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بنى حارثة، واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين، ثم جاء من يخبرنا بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استقبل البيت، فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أولئك قوم آمنوا بالغيب» «٢» .

تلك أول صفة نتيجة التقوى وهي الإيمان بالغيب، أما الصفة الثانية التي مدح الله بها المتقين فهي قوله- تعالى-:

وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ.

الصلاة في اللغة الدعاء، من صلى يصلّى إذا دعا، واستعملها الشارع في العبادة ذات الركوع والسجود لاشتمالها على الدعاء، والإقامة في الأصل: الدوام والثبات، من قولك: قام الحق أى: ظهر وثبت.

ومعنى يُقِيمُونَ الصَّلاةَ: يؤدونها في أوقاتها المقدرة لها، مع تعديل أركانها، وإيقاعها مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها، فإن الصلاة المقامة بحق هي تلك التي يصحبها


(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤١.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>