للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ذكر بعض أعظم أسباب دخول النار]

ولما كسفت الشمس في عهده خرج صلى الله عليه وسلم فزعاً حتى إنه أخطأ في إزاره وردائه، ثم صلى بالناس في محرابه المعروف، والمحاريب التي في الحرم اليوم ثلاثة: الأول: المحراب الذي يصلي فيه الأئمة الآن، وهذا المحراب كان موضع صلاة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وأرضاه.

وأما الصديق والفاروق والنبي صلى الله عليه وسلم فما كانوا يصلون فيه؛ لأن التوسعة الجنوبية حدثت في عهد عثمان.

والثاني: المحراب الذي في الروضة الآن، فهذا مكان صلاة نبينا صلى الله عليه وسلم، وصلاة الصديق والفاروق من بعده إلى زمن عثمان.

وأما المحراب الذي هو خارج الروضة جهة الغرب فهوا محراب بناه سليمان القانوني أحد سلاطين آل عثمان، حيث كان المذهب الحنفي هو السائد في دولة آل عثمان، وكان الشافعية أكثر الناس حظاً في المسجد النبوي آنذاك، وكانوا يصلون في محراب النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يساوي أهل مذهبه بالشافعية، فبنى محراباً موازياً لمحراب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يجعله في الروضة، وهو المحراب الموجود الآن في غربي الروضة المشرفة.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس ازدلف إلى محرابه وصلى إماماً، وفي أثناء صلاته تأخر إلى الوراء قليلاً، ثم حدث الناس بعد الفراغ من الصلاة، وأخبرهم بأمور عدة، فأخبرهم بأن كل شيء توعدون به قد رآه في صلاته، حتى النار رآها أمامه، ولأجل ذلك تأخر خوفاً من أن يصيبه لفحها، وأخبرهم بأنه وجد فيها أصحاب المعاصي كلهم، حتى صاحب المحجن رآه يجر قصبه في النار.

حتى وصاحب المحجن معهود ذهني، وهو رجل مشهور في الجاهلية اسمه عمرو بن مالك، كان عنده عصا طويلة معكوفة في أعلاها، فكان يتربص بالحجاج المارين في الطريق، فإذا مر رجل معه متاع علق محجنه في المتاع ثم أخذه، فإن فطن الرجل وتنبه اعتذر له بأن المتاع تعلق بالمحجن من غير قصد، فيعطيه المتاع ويمشي، وإن كان لم يفطن ولم يتنبه له أخذ المتاع، ومكث دهره كله لا يعرف حتى فضح واشتهر.

فنأخذ من هذا أن من أعظم أسباب دخول النار بعد الكفر ظلم العباد، وأخذ حقوقهم -عياذا من ذلك- في الأمر الحقير، أو في الأمر الكبير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)، وقال في الظلم: (ولو عوداً من آراك) لأن حقوق الناس لا يجوز شرعاً لأحد أن يأخذها وينالها بأي طريقة، علموا ذلك أو لم يعلموا، ويؤيد هذا أنه صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها).

فقوله: (قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس) قال الإمام القرطبي رحمه الله: وهذه السياط موجودة عندنا في المغرب إلى الآن.

وهذا في زمنه، قال صديق حسن خان في (يقظة أولي الاعتبار): جاء بل هذه السياط وهؤلاء الناس موجودون في كل زمان ومكان، وهي عند أهل الثراء والجاه والسلاطين أكثر من غيرهم.

فظلم العباد -أياً كان- من أعظم أسباب دخول النار.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات) وقال في نفس الحديث الذي رأى فيه النار: (يا معشر النساء! تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار) فلما سألن عن ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) فقوله: (تكثرن اللعن): أي: يجري على ألسنتكن اللعن (وتكفرن العشير) العشير الزوج، أي: ربما أسدى لك المعروف تلو المعروف تلو المعروف، ثم يأتي منك إنكار لذلك المعروف الذي أسدى إليك الزوج، وهذه صفة غالبة في النساء.

فالإضرار بالناس من حيث الجملة من أعظم أسباب دخول النار على أن السبب الأعظم في دخول النار، والخلود فيها هو الكفر، فليس بعد الكفر ذنب، والكفر والشرك بالرب تبارك وتعالى أعظم أسباب دخول النار، بل هو السبب الأعظم، على أن الكفر والشرك -عياذا بالله- ليس سبباً في دخول النار فحسب، بل إنه سبب مقتض للخلود فيها، فالكفار والمشركون لا يمكن أن يخرجوا من النار البتة، قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:١٠ - ١٢].

فأهل الكفر وأهل الشرك خالدون مخلدون في النار أبداً، أما من مات على التوحيد ولم يأت بذنب يخرجه من الملة، فإنه مهما طال بقاؤه في النار سيخرج منها لا محالة، فهذا الذي اقتضته حكمة الله تبارك وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>