للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أويس القرني بر أمه فبر الله قسمه]

وهذا أويس القَرَني، وهو من مراد، ونحن نلتقي معه، لكن لا نفتخر بذلك؛ فـ أبو لهب عم الرسول عليه الصلاة والسلام في النار، والنسب لا يقارب ولا يباعد، يقول عليه الصلاة والسلام: {يا بني هاشم! لا تأتوني بأنسابكم يوم القيامة ويأتيني الناس بأعمالهم} وقال عليه الصلاة والسلام: {من بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه} وعبد مولى قريب من الله عز وجل هو حبيب الله وولي الله، فـ بلال الحبشي أتى من الحبشة، كان يباع ويشترى، فلما أسلم رفع الله ذكره في الخالدين، وأصبح له قصر في الجنة كالربابة البيضاء.

يقول عليه الصلاة والسلام للصحابة وهو يحدثهم: {سوف يقدم عليكم من أهل اليمن رجل اسمه أويس بن عامر القرني} وضبط قبيلته: قَرَن.

كما قال ابن مالك:

وعدن وقرن ولا حق وشذقم وهيلة وواشق

فهي قَرَن، وليست قَرْناً.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: {له أم هو بار بها، لو أقسم على الله لأبره، فيه كالدرهم من آثار مرض البرص، يشفع يوم القيامة لمثل قبيلة مضر حتى يدخلوا بشفاعته الجنة}.

وكان رجلاً فقيراً في اليمن، ليس له مال، ولا زوجة، ولا أبناء ولا بنات.

هذا الرجل قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم عنه للصحابة: {إذا قدم عليكم فاطلبوا منه أن يستغفر الله لكم} يستغفر لـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم خير منه لكنها حكمة من الله! {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:٢١].

فكان أبو بكر في خلافته كلما أقبل وفد من أهل اليمن سألهم، وقال: أفيكم أويس بن عامر القرني؟ فيقولون: لا.

فتوفي أبو بكر ولم يأت أويس،

وتولى عمر رضي الله عنه وأرضاه، فكان يسأل أهل اليمن حتى أتاه وفد الحجاج من أهل اليمن، فقال: أفيكم أويس بن عامر القرني؟ قالوا: نعم.

يا أمير المؤمنين! عندنا رجل يَرْعى الإبل لنا في الوادي، إن كان هو الذي تقصد فهو راعي غنم، ماذا تريد من راعي الغنم؟ قال: ألَهُ والدة؟ قالوا: نعم.

قال: أهو بار بها؟ قالوا: نعم.

قال: أصابه برص فبقي في بطنه كالدرهم من آثار البرص، قالوا: نعم.

فقال للصحابة: قوموا بنا إلى أويس بن عامر فركب حماره رضي الله عنه وأرضاه ومعه علي وجل الصحابة، وذهبوا إليه في الوادي، وهو في ضاحية من ضواحي المدينة، أتوا إليه، وقد توضأ وجعل عصاه سترة له إلى القبلة، يسجد ويركع ويدعو ويبتهل إلى الله، فانتظر عمر حتى انتهى أويس من الصلاة، فسلم عليه، وقال عمر: من أنت؟ قال: أويس بن عامر قال: ألك والدة؟ قال: نعم.

قال: اكشف عن بطنك، فكشف، فرأى عمر رضي الله عنه كالدرهم من البرص في بطنه، فقبل عمر بطنه، وقال: استغفر لي، فبكى أويس بن عامر، وقال: سبحان الله! أستغفرُ لك وأنت أمير المؤمنين! قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لنا: {يقدم عليكم من أهل اليمن رجل له والدة هو بها بار، لو أقسم على الله لأبره، يدخل بشفاعته مثل قبيلة مضر يوم القيامة في الجنة} فقال: غفر الله لك يا أمير المؤمنين!

فأخذ الصحابة يقولون: استغفر لنا استغفر لنا، وهو يدعو لهم.

ثم قال عمر: أتريد أن تقيم معي في المدينة؟ قال: يا أمير المؤمنين! اتركني أحيا يوماً جائعاً ويوماً شبعاناً حتى ألقى الله.

فعاد عمر وسأل عنه في اليوم الثاني فلم يجده، وسأل رفقته فلم يجدوه، وقالوا: اختفى وذهب إلى العراق وحيداً غريباً.

غريباً من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد

سكن الخرابات حتى لقي الله، وهو يشفع يوم القيامة لمثل القبيلة العربية العظيمة مضر، يدخلهم الجنة بسبب بره بأمه.

فرضي الله عن أويس، الذي استغفر لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد ذهب إلى الله ببره بأمه.

وتتكرر دائماً صور الصالحين في برهم بأمهاتهم، وصدقهم مع ربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

وأحد الصالحين من السلف قام في خدمة أمه، فطلب منه كثير من الخلفاء أن يتولى لهم أعمالاً وإمرة، فقال: لا.

إمرتي في بيتي مع أمي، فقام على أمه، قالوا: كان يغسلها، ويلبسها ثيابها، ويصنع الطعام لها، ويكنس بيتها، حتى رأى في المنام قائلاً يقول: لقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر بما فعلت مع أمك.

يروي هذا صاحب الحلية وأمثاله من أهل الرقائق والمواعظ.

فيا عباد الله! يا أبناء من آمنوا بـ (لا إله إلا الله) وصدقوا بموعود الله: ما أحوجنا لبر الوالدين، والعبد كما يقول ابن تيمية: لا بد أن يقصر مع والديه، فإن ابن تيمية شيخ الإسلام، يتحدث عن أمه، فقد كانت في بلد حَّران، وهو في بلد آخر، فقال: قد قصرت معكم في الزيارة، وفي الحقوق، والنفقة، والله لو حملتني الطيور بأجنحتها لسرنا إليكم؛ لكن العبد لا بد أن يقصر مع والديه؛ فليستغفر الله، وليدرأ بالحسنات السيئات {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:١١٤].

فمن أغضب والديه فليدع لهما بظهر الغيب، ومن أنقص حقهما فليوفه يوماً من الأيام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>