للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فغبر جاريا على هذه الوتيرة مدة مديدة أجررته رسن البغي فيها، فظل يمرح في تيهه حتى إذا تخيل أنه السابق الذي لا يجارى في مضمار ولا يساوي عذاره بعذار، وأنه رب الكلام ومقتض عذارى الألفاظ، ومالك زق الفصاحة نثرا ونظما وقريع دهره الذي لا يقارع فضلا وعلما، وثقلت وطأته على كثير مما وسم نفسه بميسم الأدب، وأنبط من مائه أعذب مشرب، فطأطأ بعض رأسه وخفض بعض جناحه وطامن على التسليم له طرفه، وساء معز الدولة أحمد بن بويه - المقدم ذكره (١) - وقد صورت حاله، أن يرد حضرته مهي دار الخلافة ومستقر العز وبيضة الملك رجل صدر عن حضرة سيف الدولة بن حمدان - وقد تقدم ذكره أيضا - وكان عدوا مباينا لمعز الدولة، فلا يلقى أحدا بمملكته يساويه في صناعته، وهو ذو النفس الأبية والعزيمة الكسروية، والهمة التي لو همت بالدهر لما تصرفت بالأحرار صروفه ودارت عليهم دوائره (٢) ، وتخيل الوزير المهلبين رجما بالغيب، أن أحدا لا يستطيع مساجلته ولا يرى نفسه كفؤا له ولا يضطلع بأعبائه فضلا عن التعلق بشيء من معانيه، وللرؤساء مذاهب في تعظيم من يعظمونه وتفخيم من يفخمونه وتكرمة من يراعونه ويكرمونه، وربما حالت بهم الحال وأوشكوا عن هذه الخليقة الانتقال، وتلك صورة الوزير المهلبي في عودة عن رأيه هذا فيه، ولم ولم يكن هناك مزية يتميز بها أبو الطيب عن الهجين الجذع من أبناء الأدب فضلا عن العتيق القارح إلا الشعر، ولعمري إن أفنانه كانت فيه رطبة ومجانية عذبة، فنهدت له متتبعا عواره ومقلما أظفاره ومذيعا أسراره، وناشرا مطاويه ومنتقدا من نظمه ما تسمح فيه، ومتحنيا أن تجمعنا دار يشار إلى ربها فأجري أنا وهو في مضمار يعرف به السابق من المسبوق واللاحق من المقصر عن اللحوق، وكنت إذ ذاك ذا سحاب مدرار وزند في كل فضيلة وار، وطبع يناسب صفو العقار إذا وشيت بالحباب ووشت بها سرائر الأكواب، هذا وغدير الصبا صاف ورداؤه ضاف، وديباجة العيش غضة وأرواحه معتلة وغمائمة منهلة، وللشبيبة شره وللاقبال من الدهر غرة، والخيل


(١) انظر ج ١: ١٧٤.
(٢) ر: دوائره وحتوفه.

<<  <  ج: ص:  >  >>