للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٣- شعراء أنطقتهم الفتوح:

أذكت الفتوح الإسلامية جذوة الشعر العربية، التي خبت حينًا، وقد وجدت وقودًا غذاها فذكت، وانطلق الشعر على ألسنة المحجمين من الشعراء المتحرجين، فقد فتحت لهم الفتوح أبوابًا كثيرًا يدلفون خلالها من قواقعهم، إلى حيث يمارسون التعبير عن ذواتهم، في ظلال فكرة الجهاد التي اجتذبهم لألاؤها فاندفعوا إلى الميادين؛ حيث وضعوا فروسيتهم وشاعريتهم في خدمة الفكرة الإسلامية.

ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، فإن شعراء آخرين بدءوا يظهرون على مسرح الشعر، وإن كانت أدوارهم لا تسمو إلى أدوار الشعراء القدامى مع أن شعرهم أكثر فاعلية في أداء مهمة الشعر في المعركة، ويدهش الباحث أمام كثرة الشعراء من هذا القبيل، حتى ليخيل إليه أن الفاتحين جميعًا قد استحالوا شعراء في الفتوح، خاصة في الميدان الشرقي.

وهؤلاء الشعراء الذين أنطقتهم الفتوح ينقسمون في تصورنا قسمين؛ أولهما: طائفة من الشعراء المغمورين، الذين لم يذع لهم شعر فيما قبل اشتراكهم في المعارك، ولم يذع ذكرهم أيضًا قبل ذلك. وقد وجد هذا القبيل فرصته في الفتوح؛ إذ سارت بشعره الركبان، وسجل اسمه في ذاكرة العرب. وظهرت أسماء جديدة طالعتنا في كتب التاريخ والمغازي لا بريق لها ولا ألفة لدينا، كالأسود بن قطبة التميمي، والقعقاع بن عمرو، وأخيه عاصم، وحسان بن المنذر بن ضرار الضبي، والأعور العبدي الشني، ونافع بن الأسود بن قطبة التميمي، وضرار بن الخطاب، وعمرو بن مالك الزهري، وكثير بن الغريزة النهشلي، وغيرهم.

كان هؤلاء شعراء قليلي الحظ من الشهرة والذيوع، ولم يكن لهم في ماضيهم الفني رصيد يمكن لشخصياتهم الأدبية أن تبقى في الميدان نامية الجوانب، وأن يحافظ على ذواتهم من الانطماس والضياع، هذه المحافظة التي توفرت لشخصيات الشعراء القدامي.

وبرغم هذا فإن دور هؤلاء الشعراء في شعر الفتوح هذ الدور الرئيسي، فكثرة الشعر الذي يروى في الفتوح ينسب إليهم. وقد عبروا عن ذواتهم، ومشاعرهم، وأحاسيسهم في المواقف المختلفة التي مرت بهم تعبيرًا بسيطًا، أصيلًا، حارًّا وصادقًا، ويلاحظ الدارس أن شعرهم مقطعات صغيرة متماسكة، تعبر عن موقف واحد، شأن شعر الفتوح كله، وتعتبر برغم قصرها هذا أكثر كمالًا وتماسكًا من غيرها من شعر الفتوح.

والقسم الثاني من هؤلاء الشعراء يشكلون ظاهرة مهمة جديرة بإنعام النظر، وهم أولئك الشعراء الذين لم يكونوا في الأصل يرتبطون بالشعر في قليل أو كثير؛ ذلك أنهم لم يكونوا ينطمون الشعر أو يعنون به ولكنهم حملوا السلاح وخاضوا المعارك، فإذا بنفوسهم تفيض بالبيت أو بالبيتين أو بالمقطوعة القصيرة تسرية وتنفيسًا وحثًّا لنفوسهم وتحميسًا. وهؤلاء يمثلون السواد الأعظم من الفاتحين، وشعرهم ليس إلا استجابة حرة

<<  <   >  >>