للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٢- القصر والإيجاز:

وينبع الطابع الثاني الذي يطبع شعر الفتح، من قيم المجتمع الإسلامي أيضًا، ومن ظروف الفتوح المادية والنفسية، ومن التقاليد الأدبية الموروثة كذلك. وهذا الطابع هو الإيجاز والقصر. فشعر الفتح مقطعات قصيرة في مجموعه، ونادرًا ما نصادف قصيدة

يزيد عدد أبياتها عن العشرة. فقد تخفف شعر الفتح من بعض التقاليد الفنية للقصيد العربي، وأصبح القصيد مقطعات قصيرة، لا تحتوي على أكثر من غرض واحد.

والإيجاز طابع كان يحظى بتقدير الفكر الإسلامي، فهذا القرآن الكريم معجزة الفصاحة والبلاغة في هذا الوقت يبلغ حد الروعة المذهلة في غير كثير من الإسهاب، أو الاستدلال فيما لا يحتاج إليهما. وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يبغض الثرثارين والمتفيهقين، ويعدهم أبعد الناس منه مجالس يوم القيامة١.

وهذه ظروف القتال وحياة الجند المليئة بأعباء الفتوح، والحركة الدائبة، وأهوال القتال، وشدائد اللقاء، لا تدعو إلى استقرار، كما لا تساعد على تمهل أو امتداد نفس أو غناء، أو تشقيق للكلام، أو توليد للمعاني، بل إنها لتدعو إلى الإنجاز دعوة ملحة، وتدافع إليه دفعًا، وتضطر إليه اضطرارًا.

فليس ثمة شيء يريد المجاهد أن يفضي به غير مشاعر اللحظة الوجيزة الحادة، يلقيها دونما إسهاب أو إطالة، فهي مشاعر واضحة وبسيطة، وليست بحاجة إلى بيان أو إيضاح أو إفاضة، كما أنها ليست بحاجة إلى إلحاح على الفكرة أو تقليب لها على وجوهها، أو تشقيقها أو التوليد منها.

وإنما هي بريق خاطف، وانفعال لاهب، وانطلاق راكض، وتعبير مركز مضغوط. وكانت النتيجة تغير صورة القصيدة العربية إلى مقطوعة قصيرة، وأبيات تستوعب الانفعالات الحادة والعواطف الملتهبة، التي تشبه الضربات المتلاحقة في غير امتداد في النفس أو تمهل في الغناء، فانفسح بهذا المجال أمام الرجز بأبياته القليلة لتأدية معاني القصيدة. وقد يجد الشاعر فرصة في أعقاب المعركة يستشعر فيها على مهل عواطفه، ويتأمل ذاته تأملًا مستأنيًا، ولكن ذلك كان نادر الحدوث.


١ الكامل للمبرد ج١، ص٤.

<<  <   >  >>