للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٣- العفوية والبساطة:

وهذا الطابع من القصر والإيجاز يسلمنا إلى طابع آخر، اتسم به شعر الفتح نتيجة لانطلاق التعبير وحدته، والقصد إلى الفكرة مباشرة، دون إسهاب، فاتسم الشعر لهذا بطابع العفوية.

ولسنا نقصد بالعفوية التحلل من كل قيد، أو تقليد فني، أو نظام. كما أننا لا نعني بها خلو هذا الشعر من أية قيمة جمالية فنية، إنما نعني بها انعدام الصقل والتهذيب والمعاودة والمراجعة. وبالتالي انعدام التكلف والتقعر والتعمل. ونتج عن هذا أن شعر الفتح وبلا استثناء يتسم بالصدق والحرارة الانفعالية؛ كاستجابة نفسية حرة وطليقة من إسار العناية والصنعة.

وواضح لمن يمعن في قراءة هذا الشعر أنه ثمرة خالصة للانفعالات النفسية، دون شحذ أو صقل، وأنه استجابة نفسية لما يشعر به الفرد في تدفق يناسب كانسياب الماء في المجاري الطبيعية، الخالية من الصنعة المستأنية والتدبير والتصميم السبقي.

وكان ذلك أثرًا من آثار القيم الإسلامية الجديدة أيضًا تلك القيم التي تستمد من سماحة الإسلام وبساطته، وكراهة التعمل والتكلف، وهي صفات عُنِيَ الإسلام بغرسها في نفوس المسلمين عامة.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد وصف بها في القرآن الكريم بأنه لم يكن من المتكلفين: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: ٨٦] وعلى هدى هذه القيم، كانت الكفة الراجحة في الميزان النقدي الإسلامي لما كان جاريًا مع الطبع، بعيدًا عن التكلف، وكانت الكفة المرجوحة لكل كلام غالٍ فيه صاحبه وتكلف. فكان التقعير والتشادق عيبًا وتصنعًا. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجبه السجع المصنوع الذي يستوي لديه بسجع الكهان، والذي كان الكهنة يتصنعونه في حديثهم عن المغيبات؛ ليكون لكلامهم وقع لدى العامة١. وكذلك كان عمر بن الخطاب ينكر الإغراب والتكلف ومخالفة الطبع٢.

وهو في الحقيقة إنكار لكل محاولة تهدف إلى التكلف والتشدق، وإعجاب بكل سمح يبتعد عن القسر والاستكراه. وكان لهذه السمة فضل إيثار الشعراء للإفهام في صورة بسيطة صادقة مطبوعة، دون زخرف أو زينة؛ ولهذا جاء شعرهم خاليًا من أية محاولة مصنوعة للتعمل، وتوافرت عناصر الصدق، وحرارة التعبير، والاقتدار على التأثير، بما لها من سماحة الطبع وجيشان العاطفة وعذوبة التعبير، دون إلحاح على تصوير


١ المثل السائر ص١١٦.
٢ ذيل الأمالي ص١٤٢.

<<  <   >  >>