للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الاجتماعية أو الثقافية لنفس المؤثِّرات الإعلامية والفنية الموحدة مهما تباعدت مناطق إقامتهم١.

ولا شك أن الأدب أو الفن بوجهٍ عام -كما يقرر تولستوي- إحدى وسائل الاتصال بين الناس, فكما أن الإنسان ينقل أفكاره إلى الآخرين عن طريق "الكلام", فإنه ينقل إلى الآخرين عواطفه عن طريق الأدب والفن, ومعنى هذا: أن الأدب لا يخرج عن كونه أداة تواصل بين الأفراد، يتحقق عن طريقها ضَرْبٌ من الاتحاد العاطفي أو التناغم الوجداني فيما بينهم, ولما كان الناس يملكون هذه المقدرة الفطرية على نقل عواطفهم إلى الآخرين عن طريق الحركات والأنغام والخطوط والألوان والأصوات وشتَّى الصور اللفظية، فإن كل الحالات الوجدانية التي تمرُّ بالآخرين من حولنا هي بطبيعة الحال في متناول إحساساتنا، فضلًا عن أن في وسعِنَا أيضًا أن نستشعر عواطف أخرى أحسَّ بها غيرُنا من قبل منذ آلاف السنين٢.

ولا يَقِلُّ الفن أهميةً في نظر تولستوي عن "الكلام"؛ لأنه لو لم تكن لدينا تلك المقدرة على التعاطف مع الآخرين عن طريق الفن، لبقينا متوحشين منعزلين يحيا كلٌّ منَّا بمنأى عن الباقين, أو لظللنا فرادى عاجزين عن تحقيق أيِّ توافقٍ فيما بيننا بعضنا والبعض الآخر.. وكما أن اللفظ هو أداة اتصال فكري هامٍّ بين بني البشر، فإن الفن هو أداة اتصال عاطفيّ هام بين الناس أجمعين. وتبعًا لذلك فإن تولستوي يعرِّفُ الفنَّ بقوله: أنه "ضَرْبٌ من النشاط البشري الذي يتمَثَّلُ في قيام الإنسان بتوصيل عواطفه إلى الآخرين، بطريقة شعورية إرادية، مستعملًا في ذلك العلامات الخارجية", ويضرب تولستوي لذلك مثلًا فيقول: إنه لو قُدِّرَ لطفلٍ صغير استشعر انفعال الخوف الشديد عند لقاء الذئب أن يروي لجماعة من الناس ما اعْتَوَر نفسه من مخاوف حينما التقى بذلك الحيوان الكاسر، ولو نجح مثل هذا الطفل في أن يسترجع نفس المشاعر عند روايته لتلك القصة، وأن يولِّدَ في نفس سامعيه مشاعر مماثلة, لكان عمله هذا فنًّا ما في ذلك ريب.. وحتى لو افترضنا أن هذا الطفل لم يلتق في حياته يومًا بذئب، ولكنه نجح في أن ينقل إلى الآخرين شعوره المتوهم بالخوف، فإن مثل هذه الصورة المتخيَّلة تُعَدُّ أيضًا ضربًا من الفن، بشرط أن يتمَّ عن طريقها انتقال العواطف من الراوي إلى المستمعين. وتبعًا لذلك، فإن تولستوي لا يَقْصِرُ كلمة "الفن" على ما نراه في المسارح والمعارض, أو ما نسمعه في صالات الموسيقى والغناء، أو ما نقرأه في كتب الأدب والشعر والقصة والرواية، بل هو يدخل أيضًا في دائرة الفن كل ما


١ د. إبراهيم إمام: الإعلام والاتصال بالجماهير، القاهرة ١٩٧٥ ص٢٨.
٢ د. زكريا إبراهيم: مشكلة الفن، القاهرة ١٩٧٧ ط٢.

<<  <   >  >>