للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إن هناك فرقا بين الفضائل الحقيقية والفضائل التي ليست إلا ظاهرية، كما أن هنالك فرقا كبيرا بين الفضائل التي تصدر عن معرفة الحقيقة معرفة صحيحة والفضائل التي تكون مصحوبة بالجهل أو بالخطأ، والفضائل التي أسميها ظاهرية ليست في حقيقة الأمر إلا رذائل.

ولكن من حيث إنها ليست من الشيوع بقدر الرذائل الأخرى التي هي أضداد لها، ومن حيث إنها أبعد عنها من الفضائل التي تشغل منزلة وسطى, فقد جرت عادة الناس أن يقدروها أكثر مما يقدرون من الفضائل؛ ولذلك لما كان عدد من يخافون المخاطر خوفا شديدا جدا أكثر من عدد من يخافونها قليلا جدا، غلب على الناس أن يقابلوا بين التهور والاستحياء كما يقابلون بين فضيلة ورذيلة، وزاد تقديرهم للتهور على تقديرهم للشجاعة الحقيقية. ولذلك أيضا وجدنا المبذرين يمدحون عادة أكثر مما يمدح أهل السخاء، ووجدنا الأخيار المخلصين حقا لا ينالون من الاشتهار بالبر والتقوى قدر ما ينال المخرفون والمنافقون.

وكثير من الفضائل الحقيقية لا تصدر عن معرفة حقيقية, بل إن منها ما يصدر أيضا عن نقص أو خطأ, فغالبا ما تكون البساطة علة لرقة القلب، والخوف علة للتقوى، واليأس علة للشجاعة. والفضائل المصحوبة بنقص يختلف بعضها عن بعض ويسميها الناس أيضا بأسماء مختلفة. أما الفضائل الخالصة الكاملة التي لا تصدر إلا عن معرفة الخير, فهي كلها من طبيعة واحدة، ويمكن أن يشتمل عليها اسم الحكمة؛ لأن كل من صدقت عزيمته وثبتت إرادته على أن يستعمل عقله دوما أحسن ما وسعه من استعمال، وان يتوخى في جميع أفعاله ما يراه أحسن الأشياء، وهو حكيم حقا بقدر ما تهيئه له طبيعته. وبهذا وحده يكون عادلا ومعتدلا، ويكون مالكا لكل الفضائل الأخرى، وتكون كلها مجتمعة فيه بقسطاس مستقيم, فلا تطغى إحداها على الأخرى. وهذا هو السبب في أن هذه

<<  <   >  >>