للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قط رأيا ما لم يجدوه مصرحا به في كتبي، وأن لا يقبلوا شيئا على أنه حق، لا في مؤلفاتي ولا في غيرها، ما لم يروه -في وضوح- مستنتجا من المبادئ الحقة.

وأنا أعلم أيضا أنه قد تمضي قرون عديدة قبل أن يتاح للناس أن يستخلصوا من هذه المبادئ جميع الحقائق التي يستطاع استخلاصها منها١، إما لأن أغلب الحقائق التي لم يهتد إليها بعد تعتمد على بعض التجارب الخاصة التي لا تتحقق قط بطريق المصادفة, بل يلزم أن ينقطع لها رجال شديدو الذكاء يبذلون الجهد والمال في سبيل البحث عنها، وإما لأن من العسير أن يجتمع لأشخاص بعينهم أن يبرعوا في حسن استخدامها, وأن تكون لهم القدرة على إجرائها، وكذلك لأن أغلب أصحاب الأذهان الفائقة قد بلغ من سوء رأيهم في الفلسفة السائدة حتى اليوم من عيوب, أنهم لن يستطيعوا قط أن يقعدوا عزمهم على الاشتغال بالبحث عن فلسفة أفضل منها.

ولكن أقول في الختام: إنه إذا كان الاختلاف الذي سيرونه بين هذه المبادئ, وبين مبادئ أي مذهب آخر، والمركب الكبير من الحقائق التي يمكن أن تستخلص منها يجعلهم يعرفون أهمية الاستمرار في بحث هذه الحقائق, ومدى ما يستطيع أن يوصلنا إليه من درجات الحكمة وكمال الحياة وغبطتها، فإني مقتنع بأنه لن يوجد واحد لا يحاول أن يشغل نفسه بهذا البحث المفيد, أو على الأقل لا يؤيد ولا يعاون بكل قواه أولئك الذين يهبون أنفسهم للمضي في هذا السبيل موفقين.

إن أمنيتي أن يأتي يوم يشهد فيه خلفاؤنا هذه العقبى السعيدة ... إلخ٢.


١ إن ديكارت مقتنع بما لمبادئه من يقين مطلق, وبما لمنهجه من صدق مبرأ من الخطأ.
٢ يلاحظ قارئ ديكارت شيئا من الاختلاف في نغمة الكلام, بين ما يقوله الفيلسوف في هذه الرسالة إلى مترجم "المبادئ" "١٦٤٤" وبين ما قاله في كتابه "مقال في المنهج" "١٦٣٧" في كتاب "المقال" قدم ديكارت نفسه إلى الجمهور في تواضع واستحياء، وكأنما كان يعتذر عن سلوكه طريق الاستقلال في البحث عن الحقيقة بنفسه، محاذرا أن يظن في حديثه ما يشبه إسداء النصح إلى الناس. أما في هذا الكتاب فتراه يتحدث بنغمة شيخ مدرسة وصاحب مذهب، لا يشك لحظة في صحة مبادئه ولا في سلامة منهجه، وينصح لخلفائه من الباحثين أن يسيروا في الطريق القويم الذي رسمه لهم؛ ليظفروا وتظفر البشرية معهم بالنصر المبين.

<<  <   >  >>