للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم فرع ابن سينا الفلسفة إلى حكمة نظرية وحكمة عملية, وقسم الحكمة النظرية إلى ثلاث: طبيعية تتعلق بما في الحركة والتغير بما هو كذلك, وحكمة رياضية تتعلق بما من شأنه أن يجرده الذهن من التغير وإن كان وجوده مخالطا للتغير، وحكمة تنصب على ما وجوده مستغنٍ عن مخالطة التغير. هذه هي الفلسفة الأولى أي: ما بعد الطبيعة, والفلسفة الإلهية جزء منها ويراد بها معرفة الربوبية, ومبادئ الحكمة النظرية بأقسامها الثلاثة مستفادة من أرباب الملة الإلهية على سبيل التنبيه، وإن كان تحصيلها بالكمال إنما يكون بالنظر العقلي على سبيل الحجة.

بالمثل، قسَّم ابن سينا الحكمة العملية إلى ثلاث: مدنية تتناول ما ينبغي أن يكون عليه التعاون بين الناس على مصالح الأبدان وبقاء النوع الإنساني, وحكمة منزلية تتناول ما ينبغي أن يكون عليه التشارك بين أفراد المنزل لتنتظم به المصلحة المنزلية، وحكمة خلقية تهدف إلى معرفة الفضائل وكيفية اكتسابها والرذائل وكيفية تجنبها. هذه الحكمة العملية بأقسامها الثلاثة تستفاد من الشريعة الإلهية، وإن كانت قوانينها وتطبيقها على الجزئيات تعرف بالنظر العقلي. كما أن العلوم الحكمية في رأي ابن سينا لا تتغير بتغير الزمان والمكان, ولا تختلف باختلاف الأمم والأديان.

في معرض المقارنة بين الاثنين، نجد أن الحكمة في رأي الفارابي هي معرفة الوجود الحق، والوجود الحق هو واجب الوجود بذاته. بينما ذهب ابن سينا إلى أن العلم الإلهي هو أشرف العلوم الفلسفية؛ لأنه الحكمة بالحقيقة والفلسفة الأولى والحكمة المطلقة. فهو العلم بأول الأمور في الوجود, وهو العلة الأولى وأول الأمور على العموم, وهو أيضا المعرفة بالله.

وكما اعتبر بعض مؤرخي الغرب المعاصرين أن الفلسفة والعلم بمعناهما النظري هما من إبداع اليونان, مشككين بذلك في مدى إسهام الحضارات الشرقية القديمة في هذين المجالين, فإنهم بالمثل استندوا إلى التأثيرات اليونانية في بعض

<<  <   >  >>