للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[البراءة الأصلية والاستدلال بها في العصر النبوي]

اختلفوا هل الأفعال قبل ورود الشرع على الإباحة، وقال بعضهم على الحظر، وقال بعضهم على الوقف، وقد أبطل في المستصفى الأقوال الثلاثة كلها؛ أمَّا الإباحة والمنع فلأنهما تقتضيان مبيحًا ومانعًا، والفرض لا شرع يبيح أو يمنع إلا من يقول بالتحسين والتقبيح العقليين, ومثل ذلك التوقف في الأمرين معًا, والتحقيق أن المراد أنه لا حرج في الفعل أو الترك, ولذلك عبَّرنا بالبراءة التي لا إيهام فيها، ويمثل لوقوع هذا في الزمن النبوي بفتوى أبي عبيدة بن الجراح بأكل لحم حوت العنبر الذي لفظه البحر من غير ذكاة في سرية الخبط, فأكل هو وأصحابه, فلما رجعوا وأخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هل معكم شيء" وأجاز فتواه, وأكل منه كما في أبي داود في كتاب الأطعمة١، وفي بعض طرق الصحيح أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكل منه كما في فتح الباري في كتاب الذبائح, لكن رواية أبي الزبير عن جابر في مسلم, أن أبا عبيدة قال لهم: ميتة, ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وفي سبيل الله, وقد اضطررتم فكلوا. فحاصل فتوى أبي عبيدة أنه بناه أولًا على عموم تحريم الميتة تمسكًا بقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الآية٢، وهي مكية بلا خلاف، ثم ذكر تخصيص المضطر بإباحة أكلها إذا كان غير باغٍ ولا عادٍ, والشرط متحقق؛ لأنهم رسل رسول الله، لكن تبيَّن لهم لمَّا قدموا على رسول الله، وقال هل معكم شيء، وأكل منه وهو غير مضطر, أن ميتة البحر حلال للمضطر وغيره, وأنها في حكم المذكى, وقال بعض أئمتنا: إنهم أقاموا يأكلون منه أيامًا, فلو كانوا أكلوا منه على أنه ميتة اضطرارًا ما داموا عليه, إذ يمكن انتقالهم لطلب المباح من


١ متفق عليه: البخاري في الصيد "٧/ ١١٦", ومسلم "٦/ ٦١".
٢ الأنعام: ١٤٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>