للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عمل أهل المدينة]

وأما ما ذكرت من مقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه, وما علمهم الله منه, وأن الناس صاروا تبعًا لهم فيه فكما ذكرت، وأما ما ذكرت من قول الله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ١, فإن كثيرًا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله؛ فجنَّدوا الأجناد, واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم, ولم يكتموهم شيئًا علموه, وكان في كل جند منهم طائفة يعلِّمُون كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم, ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسّره لهم القرآن والسنة, وتقدمهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم, بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين, والحذر من اختلاف بكتاب الله وسنة نيبه -صلى الله عليه وسلم, فلم يتركوا أمرًا فسره القرآن أو عمل به النبي -صلى الله عليه وسلم, أو ائتمروا فيه بعده إلا علموهموه، فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان, ولم يزالوا عليه حتى قبضوا, لم يأمرهم بغيره, فلا تراه يجوز لأجناد المسلمين أن يُحدثوا اليوم أمرًا لم يعمل به سفلهم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, قد اختلفوا بعد الفتيا في أشياء كثيرة, ولولا أني قد عرفت أن قد علمتها كتبت بها إليك.

ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، سعيد بن المسيب ونظراؤه أشدَّ الاختلاف، ثم اختلف الذين كانوا بعدهم، فحضرتهم بالمدينة وغيرها، ورأسهم يؤمئذ ابن شهاب٢، وربيعة بن أبي عبد الرحمن, وكان من خلاف ربيعة لبعض من قد مضى ما عرفتَ وحضرتَ وسمعت، وسمعتُ قولك فيه، وقول ذي الرأي من أهل المدينة، يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فرقد، وغير كثير، ممن هو أسن منه، حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه, وذاكرتُك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب به على ربيعة من ذلك, فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير, وعقل أصيل, ولسان بليغ, وفضل مستبين, وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامَّة ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن من عمله، وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقينا وإذا كاتبه بعضنا، فربما كتب إليه في الشيء الواحد على فضل علمه ورأيه بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضًا, ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك، فهو الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه.


١ التوبة: ١٠٠.
٢ محمد بن مسلم الزهري.

<<  <  ج: ص:  >  >>