للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثاني: قد يتصرف الحاذق بصنعة الكلام في التشبيه المبتذل، بما يجعله غريبا ممتنعا، لا ترتقي إليه مدارك العامة- كما في قو لاملتنبي، من قصيدة يمدح بهاهارون ابن عبد العزيز الأدراجي:

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجه ليس فيه حياء

يريد الشاعر: أن يشبه وجه الممدوح بالشمس في الإشراق. ومثل هذا التشبيه مطروق مبتذل، يستوي فيه العامة الخاصة لوضوح وجه الشبه، وعدم توقفه على نظر- غير أن حديث "الحياء"، وما فيه من الدقة والحسن: من حيث إفادته: المبالغة في وصف الممدوح بوضاءة الوجه، وأنه أعظم إشراقا من الشمس أخرج التشبيه عن ابتذاله، وكساه صورة رائعة، تستوقف النظر، وتستثير الإعجاب- ذلك: أنه نزل الشمس منزلة من يرى ويستحي، فادعى أنها حين تلقى وجه الممدوح لا تلقاه إلا بوجه منزوع منه الحياء، أي وكان ينبغي حين إذ تلقاه أن تتوارى منه خجلا، ومثل هذا التصرف يقتضي أن يكون وجه الممدوح أكمل وأتم إشراقا من الشمس- وشبيه بقول المتنبي قول الآخر:

إن السحاب إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها١

لا شك أن تشبيه الندى بالسحاب في الفيض مبتذل، في متناول العامة، لكن حديث الاستحياء، وتنزيل السحاب منزلة من ينظر ويستحي خرج بهذا التشبيه عن ابتذاله إلى مستوى رفيع، على نحو ما قلنا في البيت السابق.

ومن ذلك قول رشيد الدين:

عزماته مثل النجوم ثواقبا ... لو لم يكن للثاقبات أقول٢


١ "قاسته بما فيها" أي شبهته، ويريد بما فيها: المطر.
٢ "عزماته" جمع عزمة، وهي التصميم في الغرادةن و"ثواقبا" حال من النجوم وهي النوافذ في الظلمات بإشراقها، وسمي لمعان النجوم ثقوبا لظهورها من وراء الظلمة وكأنها ثقبتا "والأفول" الغروب: وجواب الشرط محذوف تقديره لكانت عزماته مثلها

<<  <  ج: ص:  >  >>