للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والاستدارة والاستنارة في الثاني، وهذا يقتضي غرابة التشبيه وبعده ولكن عارض ذلك ما جعله قريبًا مبتذلًا وهو كثرة حضور صورة المشبه به في الذهن لكثرة مشاهدتها, إذ ليس من شك أن صورة "القمر" في المثال الأول، وصورة "الشمس" في المثال الثاني مما يشاهد كثيرًا.

والغريب البعيد: هو ما لا ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به بعد إعمال فكر, ودقة نظر بسبب خفاء وجه الشبه فيهما.

وأسباب خفاء الوجه ثلاثة أيضًا:

١- أن يكون الوجه كثير التفصيل، يحتاج إلى كثرة الملاحظات والاعتبارات, كما في تشبيه الخد بالشقيق في قول الشاعر:

لا تعجبوا من خاله في خده ... كل الشقيق بنقطة سوداء

فوجه الشبه بين الطرفين هو الهيئة الحاصلة من وجود نقطة مستديرة سوداء في وسط رقعة مبسوطة حمراء, وفيه من كثرة التفصيل والاعتبارات ما لا يقع في نفس مريد التشبيه إلا بعد تأمل وروية. وكما في تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل, فإن الهيئة المشتركة في كليهما -على ما تقدم بيانه- لا تقوم بنفس مريد التشبيه إلا بعد أن يتأمل ويتعمل.

ب- أن يندر حضور صورة المشبه به في الذهن عند حضور صورة المشبه؛ لبعد التناسب بين الصورتين، وعدم التجانس بينهما كما في تشبيه القمر بالعرجون في قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ١ فصورة "العرجون" في ذاتها غير نادرة الحضور في الذهن, ولكنها تندر عند استحضار صورة "القمر" للبون الشاسع بين الصورتين؛ فإن القمر مسكنه في السماء، والعرجون في الأرض، والقمر من فصيلة الكواكب، والعرجون من قبيل النباتات, والقمر مثال العلو والهداية, والعرجون شيء تافه حقير لا تكاد تظهر له فائدة, فشتان ما بين الصورتين، وناءٍ ما بين الطرفين. وكقول الشاعر:


١ هو عذق النخل, إذا يبس.

<<  <  ج: ص:  >  >>