للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذكر الكاف، ولا تقدرها في نفسك ادعاء منك أن المشبه هو المشبه به نفسه، لا شيء سواء مبالغة. ومثله قوله تعالى: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يريد -وهو أعلم بمراده- أن الجبال يوم القيامة بعد النفخة الأولى تسير في الهواء كالسحاب تسوقه الرياح, فهو تشبيه مؤكد تنوسي فيه تقدير الكاف ليكون المعنى: أن مرور الجبال يوم القيامة هو مرور السحاب بعينه, وهذا المعنى هو ما ينبغي أن يفهم تصويرًا للحالة التي ستكون، ولو فرض تقدير الكاف في الكلام لكان تشبيهًا مرسلًا.

إذا علمت هذا, علمت أن كل مثال تركت فيه الأداة يحتمل أن يكون من قبيل المؤكد إن لم تقدر فيه الأداة, وأن يكون من قبيل المرسل إن قدرت الأداة, ما لم تقم قرينة على المراد.

ومن التشبيه المؤكد: ما أضيف فيه المشبه به إلى المشبه, كما في قول الشريف الرضي يستمطر الرحمة على قبور الموتى:

أرسى النسيم بواديكم ولا برحت ... حوامل المزن في أجداثكم تضع١

يقول: أقام النسيم بواديكم، تهب عليه نفحاته، ولا فتئت غوادي الحسب ترطب ثرى قبوركم, والشاهد في قوله: "حوامل المزن" يريد: أن المزن الممتلئة بالماء كالحوامل من الحيوان, فقد شبه المزن بالحوامل بجامع المنفعة في كل، ثم تركت أداة التشبيه وتنوسيت، ثم أضيف المشبه به إلى المشبه "كما ترى " وفي التعبير بقوله "تضع" مع قوله: "حوامل المزن" براعة بارعة في مراعاة التناسب. ومثله قول الشاعر يصف اعتدال الريح وقت الأصيل، أي: وقت اصفرار أشعة الشمس حينما تميل إلى الغروب:

والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء٢

شبه الشاعر الماء بالفضة في النقاء والصفاء, ثم أضاف المشبه به إلى المشبه بعد حذف الأداة, وتناسيها في نظم الكلام.

وسمي التشبيه "مؤكدًا" لأنه أكد وقرر بدعوى اتحاد الطرفين, وأن المشبه هو المشبه به, لا يتميز أحدهما عن الآخر في شيء.


١ "المزن" أراد بها السحاب، والأجداث جمع: جدث بفتح الجيم والدال, وهو "القبر".
٢ الأصيل هو: الوقت بين العصر والغروب, ويعد من أطيب الأوقات, و"ذهبه" صفرته بسبب شعاع الشمس فيه, وإطلاق الذهب عليه "استعارة" و"اللجين": الفضة، وهو مضاف إلى الماء من إضافة المشبه به إلى المشبه.

<<  <  ج: ص:  >  >>