للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حال المشبه ويجهل مقدار الحال, ويريد الوقوف على مقدارها، فيلحق حينئذ بشيء يعلم المخاطب مقدار حاله, كقول الشاعر:

فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودًا كخافية الغراب الأسحم١

شبه النياق السود بخافية الغراب في شدة السواد, وبهذا التشبيه اتضحت حال المشبه واستقر في الذهن مقدار سواده، وأنه بين الحلكة شديدها. وكتشبيه صوت ضعيف بالهمس، أو قوي بالرعد؛ بيانًا لمقدار ضعف هذا الصوت أو قوته.

ولتحقيق هذا الغرض ينبغي أن يكون المشبه به أعرف, وأشهر بوجه الشبه من المشبه لدى المخاطب, كما في الأمثلة المذكورة.

غير أنه يجب هنا أن يكون المشبه به مساويًا للمشبه في وجه الشبه لا أكثر ولا أقل؛ إذ لو كان المشبه به أتم في وجه الشبه، أو أنقص منه لم يتعين المقدار، فلم يتم الغرض من التشبيه كما في تشبيه شراب بالثلج في شدة البرودة أو بالنار في شدة الحرارة, اللهم إلا إذا قصدت المبالغة.

الثالث: بيان إمكان المشبه أي: بيان أن المشبه أمر ممكن الوجود, وذلك إذا كان أمرًا غريبًا من شأنه أن ينازع فيه؛ ويدعى امتناعه، فيمثل حينئذ بشيء مسلم الوقوع ليكون دليلًا على إمكان وجوده, كما في قول أبي الطيب من قصيدة يرثي بها والدة سيف الدولة:

فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال

ادعى الشاعر أن الممدوح من السمو والرفعة بحيث فاق الجنس البشري الذي هو أحد أفراده، وصار كأنه جنس آخر. ولما كان هذا المعنى "في بادي الرأي" غريبًا في بابه, لا تقبله العقول لاستبعاد أن يخرج الشيء عن جنسه, أراد أن يؤيده بما لا نزاع فيه ليتبين إمكانه، فشبهه بشيء أقرته العقول, وآمنت به، وهو "المسك" فإنه خرج عن أصله، وتحول إلى جنس آخر لما فيه من معنى ليس في سائر الدماء


١ "الحلوبة": الناقة ذات اللبن الغزير, والخافية: ريش في الطائر يختفي إذا ضم جناحيه، و"الأسحم": شديد السواد.

<<  <  ج: ص:  >  >>