للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

للبعد عن العيان منزلة البعد عن المكان, فمثال الأول قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} ، ومثله قولك: "جاءني رجل فقال لي ذلك الرجل كذا"، تحكي أمره بعد غيبته, فالمشار إليه في كلا المثالين ذات غائبة عن حاسة البصر, غير أنه في الأول مما لا يمكن إدراكه بحاسة الإبصار، وفي الثاني مما يمكن إدراكه ومثال الثاني قولك: "وفى محمد بوعده فسرني منه ذلك الوفاء" فإن الوفاء معنى غائب عن حاسة الإبصار, ومنه ما حكي عن سيدنا الخضر مخاطبا نبينا موسى عليه السلام إذ قال له: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} ، يشير بذلك إلى الأمور التي حملته على ما فعل من قتل الغلام، وخرق السفينة، وإقامة الجدار, والاستعمال المذكور من قبيل المجاز بالاستعارة١.

٨- أن يقصد التنبيه على أن المشار إليه المعقب بأوصاف جدير من أجل تلك الأوصاف بما يذكر بعد اسم الإشارة كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} بعد قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} . فالمشار إليه في الآية بأولئك هم "المتقون" وقد ذكر عقيبه أوصاف هي: الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق من الرزق، والإيمان بما أنزل، والإيقان بالآخرة، وإنما أشار إليهم، "بأولئك" مع أن المقام للضمير لتقدم المرجع تنبيها على أن المشار إليهم أحقاء, من أجل هذه الأوصاف المذكورة, بما يرد بعد اسم الإشارة من الفوز بالهداية في العاجلة، وبالفلاح في الآجلة, ومن هذا القبيل قول حاتم الطائي:

ولله صعلوك يساور همه ... ويمضي على الأحداث والدهر مقدما

إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثمت صمما

ويغشى إذا كان يوم كريهة ... صدور العوالي وهو مختضب دما


١ فقد شبه غير المدرك بالبعيد بجامع عدم إدراك كل بحاسة البصر ثم استعمل اسم المشبه به في المشبه.

<<  <  ج: ص:  >  >>