للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[خاتمة]

تقدم: أن المشبه به ينبغي أن يكون أعرف بوجه الشبه من المشبه، أو أتم وأقوى منه فيه حقيقة, إذا عاد الغرض على المشبه، أو ادعاء إذا عاد على المشبه به كما سبق تفصيله.

ومتى كان الأمر كذلك جيء بصيغة التشبيه المعروفة؛ إشعارًا بهذا التفاوت, ودلالة على أن أحدهما ناقص. والآخر كامل كما تقول: هذا الشيء كهذا الشيء، أو مثله، أو شبهه، أو يحاكيه، أو يماثله، أو كأنه هو، أو غير ذلك من أنواع صيغة التشبيه الدالة وضعًا على أن بين الشيئين تفاوتًا.

فإذا أريد مجرد الجمع بين الشيئين في أمر من غير قصد إلى تمييز أحدهما -سواء وجد تفاوت بينهما أو لا- فالأفضل العدول عن صيغ التشبيه المذكورة إلى التعبير بصيغة التشابه أو ما يماثلها؛ احترازًا عن ترجيح أحد المتساويين الذي هو غير مقصود, كما تقول: تشابه محمد والأسد, وتماثل وجهه والبدر، وتحاكى نواله والغيث, ونحو ذلك من كل فعل لا مفعول له؛ للإشعار بأن ليس بين الطرفين تفاوت. ومنه قول إسحاق الصابي١:

تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب

فوالله ما أدري: أبالخمر أسبلت ... دموعي أم من عبرتي كنت أشرب٢

خيل للشاعر من شدة ما يعانيه من ألم الجوى، أنه يبكي بدل الدمع دمًا، فشبه دمعه الهاطل على خده بما في كأسه من خمر في الحمرة, غير أنه بالغ في التشبيه فزعم: أن الدمع والخمر تساويا في وجه الشبه، بحيث لا يفضل أحدهما الآخر فيه، حتى أشكل عليه الأمر, فلم يعرف أكان يشرب من دمعه، أو من خمره؛ لهذا عدل عن التعبير بصيغة التشبيه الدالة على التفاوت إلى صيغة التشابه المفيدة لمعنى التساوي الذي أراده. ونظير قول الصابي قول الصاحب:

رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر

فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر٣

ويجوز في هذه الحالة أيضًا الإتيان بصيغة التشبيه رغم ادعاء التساوي بين الطرفين لغرض ما, كأن يكون أحدهما موضع حديث المتكلم، أو محل اهتمامه،


١ هو إبراهيم الصابي اليهودي, كان يحفظ القرآن جيدًا, ولم يشرح الله صدره بالإسلام كما هداه لمحاسن الكلام.
٢ المدامة: الخمر، وأسبلت العين: هطلت وسالت، والعبرة بفتح العين: الدمع وهو المراد، وبالكسر بمعنى الاعتبار.
٣ "كأن" هنا للشك لا للتشبيه, وذلك أمارة التساوي، والقدح: الكأس.

<<  <  ج: ص:  >  >>