للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

تأثير الاعتزال في النقاد من غير المعتزلة

وقد كانت هذه الموجة الاعتزالية - من جميع أطرافها - اكبر قوة فاعلة في تطور النقد الأدبي أثناء القرن الثالث، لا بأشخاص وحسب بل من خلالا المتأثرين بها، فقد تناول ابن قتيبة مبادئ صحيفة بشر والصحيفة الهندية من حديث حول اللفظ والمعنى، ومراعاة نفسية السامعين، والانقياد إلى اللحظات التي لا يوجد فيها ما يعترض الغريزة أي الحالة النفسية للمنشيء. والتكلف واسماح الطبع. وطبقها جميعاً على الشعر، ولكنه لم يقف منها موقف الناقل بل منحها من التحليل والبسط ما رفعها فوق مستوى النصائح الموجزة. وكذلك أخذ المبرد مفهوماته عن الاستعانة والتشبيه والإيماء من المدرسة الاعتزالية ومبادئها البلاغية. وأقبل ابن المعتز على بيان الجاحظ، فاستخرج منه مبحثه في البديع واستعار مصطلحه عن المذهب الكلامي. وهو نوع من البديع نشأ في جو اعتزالي. فإذا أضفت إلى ذلك جهود الجاحظ والناشئ، استبانت لك حقيقة القوة الدافعة الكبرى في نقد القرن الثالث. في تقرير أبعاده وفي تثبيت مصطلحه.

كذلك فإن إلحاح المتأدبين من المعتزلة على اتخاذ الشعر وعاء للمعرفة، كان ذا اثر في توجيه النقد الأدبي، ولكن بطريقة سلبية، إذ صادف ذلك انكساراً في الذوق الأدبي بين الأجيال. وأصبحت الحاجة ماسة إلى نقد يعتمد تبيان الجمال لا المنفعة الثقافية في الشعر. ومن ثم وجدت تلك التلمسات النقدية لتحديد حقيقة الشعر " الجيد ". إذ ليس كل شعر " يعلم " الناس يستحق هذه الصفة، وليس كل شعر " يتعمق " المعاني يصلح أن يسمى شعراً.

وأياً كان الأمر فقد تعددت المحاولات النقدية في القرن الثالث. وتدل الآثار التي وصتنا كاملة أو على شكل نقول متناثرة - أو ذكرت لنا أسماؤها دون أن تصلنا - على إنها تقع تحت فئات متباينة، نميز فيها خمساً:

<<  <   >  >>