للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ومن الغريب أن يذهب ابن خلدون هذا المذهب، وهو الذي قرر من قبل أن القرآن لا ينشأ عنه ملكة في الغالب " لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها، وليس لهم ملكة في غير اساليبه، فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي، وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام " (١) ، ولعل وجه الغرابة يتضاءل حين نجد ابن خلدون يخص الاقتصار على القرآن وحده بهذا الحكم، فأما إذا اجتمع إلى القرآن محفوظات أخرى فإنها قادرة على تكوين ملكة في اللسان العربي.

طريقة النظم وصورة القوالب في البناء

وأما الرأي الثاني الناجم عن هذه النظرية في المحفوظ فهو تصور ابن خلدون لطريقة النظم: بعد أن يرتاض المرء في حفظ الشعر، ترسخ في ذهنه قوالب معينة، فإذا أراد أن ينظم قصيدة فما عليه إلا أن يستحضر القالب في نفسه، ثم أن يملاه بالقوالب الصغيرة أو التراكيب، " فغن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج، والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبنئ فيه أو المنوال الذي ينسج عليه، فإن خرج عن القالب في بنائه أو على المنوال في نسجه كان فاسداً " (٢) ، وأقل ما يمكن ان يقال في هذا التصور - حتى ولو كان قائماً على واقع الحال يومئذ - انه وضع الشعر في صورة العمل اليدوي لا من حيث إتقان الصنعة - كما هي الحال في تمثيلات عبد القاهر - بل من حيث تشابه الصنعتين.

وما دام الحفظ هو الذي يعين على تصور القوالب، فإن الطريق إلى إتقان الشعر لا يتم بدراسة النحو أو البيان أو العروض؛ نعم إن الشاعر لابد من أن يراعي قوانين هذه العلوم ولكن شاعريته لا تتكون بالاقتصار على


(١) المقدمة: ١٢٤٢.
(٢) المقدمة: ١٢٩٣.

<<  <   >  >>