للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الأصل هو الفظ

ويعود بناء إلى مشكلة اللفظ والمعنى فيرى - وهذا اغرب ما يمكن أن يقوله كاتب مفكر مثله - أن الأصل في صناعة النظم والنثر إنما هو اللفظ، والمعاني تابعة للفظ؛ " لأن المعاني موجودة عند كل واحد، وفي طوق كل فكر منها ما يشاء ويرضى فلا تحتاج إلى صناعة " (١) ، ويورد تشبيهاً على ذلك ماء البحر، فقد يغترف بآنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، بينما الماء واحد في نفسه، وإنما الاختلاف قائم بين الأواني؛ مرة أخرى نلتقي بنظرية " المعاني المطروحة " - تلك الفكرة التي بدأت عند شخص من أشد الناس تنويعاً في موضوعاته وافكاره، وانتهت عند شخص من اعمق الدارسين فكراً في شئون الحياة والمجتمع؛ هل مرد ذلك إلى أن كلاص من هذين المفكرين، كان ينظر إلى ما يملك نظرته إلى شيء لا ينفق عناءً في سبيل الحصول عليه؟ قد يكون الباعث على ذلك الثقة النفسية لدى كل منهما، وإذا كان الجاحظ قد أوجد تلك النظرية خدمة لفكرة الإعجاز، فإن ابن خلدون لم يكن له تلك الغاية؛ ولكن حين تفهم المعاني بأنها " الحقائق العامة في الحياة "، فغن الالتفات إلى اللفظ (أو إلى الصياغة) يمكن قبوله على نحو ما.

حديث عن المطبوع والمصنوع

وبعد أن عرفنا ابن خلدون بطبيعة الشعر في عصره وما وصل إليه من تكلف وصنعة، نكاد نستغرب إيراده القول في " المطبوع والمصنوع "؛ ذلك لأن المطبوع قد فات زمنه، ولم يعد له وجود؛ ولكن ابن خلدون كان ينظر إلى المشكلة نظرة ولكن ابن خلدون كان ينظر إلى المشكلة نظرة تاريخية ويحاول أن يفيد من كتاب العمدة؛ ويستوقفنا حديثه هنا عن لذة الذهن في انتقاله بين درجات الدلالات في التركيب، وهذه اللذة هي " الظفر " بالمدلول من دليله " والظفر من أسباب


(١) المقدمة: ١٣٠٢.

<<  <   >  >>