للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يُنور وجه الأرض في ظلمة الليل، ونسبتُه إلى الكل مع أنه في سماء الدنيا؛ لأنَّ بين السموات ملابسة، من حيث إنها طباق، فجاز أن يقال: فيهن، وإن لم يكن في جميعهن، كما يُقال: في المدينة كذا، وهو في بعض جوانبها. وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: إن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السموات، وظهورهما مما يلي الأرض. فيكون نور القمر سارياً في جميع السموات؛ لأنها لطيفة لاتحجب نوره. {وجعل الشمسَ سِراجاً} ؛ مصباحاً يزيل ظلمة الليل، ويُبصر أهلُ الدنيا في ضوئها وجه الأرض، ويُشاهدون الآفاق، كما يُبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، وليس القمر بهذه المثابة، إنما هو نور في الجملة، فنور الشمس أقوى، ومنه يستمد نور القمر، وأجمعوا أنَّ الشمس في السماء الرابعة.

{واللهُ أنبتكم من الأرض نباتاً} أي: أنشأكم منها، فاستغير الإنبات للإنشاء؛ لكونه أدل على الحدوث والتكوُّن من الأرض. و " نباتاً " إمّا مصدر مؤكد لأنبتكم، بحذف الزوائد، ويسمى اسم مصدر، وحكمة إجراء اللفظ فيه على غير فعله: التنبيه على تحتُّم القدرة وسرعة نفوذ حكمها، حتى كأنَّ إنبات الله تعالى نفس النبات، فقرَن أحدهما بالآخر، ونحوه قوله تعالى: {أّنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ} [الأعراف: ١٦] أي: فضرب فانبجست، فجعل الانبجاس مسبباً عن الايحاء، للدلالة على سرعة نفوذ حكم القدرة، أو: لفعل مترتب عليه، أي: أَنبتكم فنبتم نباتاً، {ثُم يُعيدكم فيها} بعد الموت {ويُخرجكم} يوم القيامة بالبعث والحشر {إِخراجاً} محققاً لا ريب فيه، ولذا أكّده بالمصدر.

{واللهُ جعل لكم الأرضَ بِساطاً} تتقلبون عليها تقلُّبكم على بُسُطكم في بيوتكم. قال ابن عطية: وظاهر الآية أنَّ الأرض بسيطة غير كُروية، واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في الشرع، إلاّ أن يترتب على القول بالكوريّة قول فاسدٌ، وأما اعتقاد كونها بسيطة فهو ظاهر في كتاب الله، وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتةَ، واستدل ابن مجاهد على ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور، قال: لو كانت الأرض كروية لما استقر الماء عليها. هـ. المحشيّ الفاسي: وهو بعيد؛ لأنَّ أهل الهيئة يرون أنها مستقرة فيه ـ اي: في البحر ـ لا العكس، ولذلك أُرسيت بالجبال لتستقر، كما عُلم من الشرع. هـ. قلت: وإنما حَكَمَ الحقُّ تعالى ببساطتها باعتبار ما يظهر للعين في ظاهر الأمر. والله تعالى أعلم.

وتوسيط (لكم) بين الجعل ومفعوليه، مع أنَّ حقه التأخير، للاهتمام بشأن كون المجعول من منافعهم، وللتشويق إلى المؤخّر، فإنَّ النفس عند تأخُّر ما حقه التقديم تبقى متشوقة مترقبة، فيتمكن عند ورودها له فضل تمكُّن، أي: بسطها لكم في مرأى العين {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبلاً فِجاجاً} أي: طُرقاً واسعة، جمع فج، وهو الطريق الواسع، وقيل: هو المسلك بين الجبلين، و " منها " متعلق بـ " تسلُكوا " لِما فيه من معنى الاتخاذ، أو:

<<  <  ج: ص:  >  >>