للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما بيَّنه في القرآن، أو كل أمة أمرت بالجهاد ووعدهم هذا الوعد. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟ هو مبالغة في الإنجاز، أي: لا أحد أوفى منه بالعهد، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ أي: فافرحوا به غاية الفرح، فإنه أوجب لكم أعظم المطالب، كما قال: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. قال بعضهم: ناهيك من بيع، البائع فيه رب العلا، والثمن جنة المأوى، والواسطة محمد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.

الإشارة: قد اشترى الحق جل جلاله منا أنفسنا وأموالنا بالجنة، فمن باع نفسه لله بأن خالف هواها وخرق عوائدها، وسعى في طلب مولاها، عوضه جنة المعارف، معجلة، وزاده جنة الزخاف، مؤجلة. ومن باع ماله بأن أنفقه في مرضاة الله، وبخل بنفسه، عوضه جنة الزخارف، مؤجلة.

قال في الإحياء- في باب الذكر وفضيلته-: وأنه يوجب الأنس والحب، فإذا حصل الأنس بذكر الله انقطع عن غير الله، وما سوى الله هو الذي يفارقه عند الموت، فلا يبقى معه في القبر أهل، ولا مال، ولا ولد، ولا ولاية، ولا يبقى معه إلا ذكر الله، فإن كان في أنس به تمتع به، وتلذذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه، إذ ضرورات الحاجات في الحياة تصد عن ذكر الله، ولا يبقى بعد الموت عائق، فكأنه خلّى بينه وبين محبوبه، فعظمت غبطته، وتخلص من السجن الذي كان ممنوعاً فيه، عما به أنسُه.

ثم قال: ولأجل شرف ذكر الله عظمت رتبة الشهادة لأن المطلوب هو الخاتمة، ومعنى الخاتمة: وداع الدنيا كلها، والقدوم على الله، والقلب مستغرق بالله، منقطع العلائق عن غيره، والحاضرُ صَفّ القتال قد تجرد قلبه لله، وقطع طمعه من حياته، حباً لله وطمعاً في مرضاته، وحالة الشهيد توافق معنى قولك: (لا إله إلا الله) ، فإنه لا مقصود له سوى الله. هـ. فما يجده أهل التملق من لذيذ الحلاوة في مناجاتهم، وأهل الشهود في حال غيبتهم في محبوبهم، ليس هو من نعيم الدنيا، بل من نعيم الجنة، قدَّمه الله لأوليائه، وهو معنى جنة المعارف المعجلة عوضاً لمن باع نفسه لله.

قال بعض العارفين: النفوس ثلاثة: نفس معيبة، لا يقع عليها بيع ولا شراء، وهي نفس الكافر، ونفس تحررت لا يصح بيعها، وهي نفس الأنبياء والمرسلين، لأنها خُلقت مطهرة من البقايا، ونفس يصح بيعها وشراؤها، وهي نفس المؤمن، فإذا باعها لله، واشتراها الحق تعالى منه، وقع عليها التحرير، وذلك حين تتحرر من رقّ الأكوان، وتتخلص من بقايا الأثر.

وقال بعض أهل التحقيق: اشترى الله تعالى أعز الأشياء بأجل الأشياء، وإنما اشترى الأنفس دون القلوب لأن القلب حر لا يقع عليه البيع لأنه لله فلا يباع ولا يشتري، أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «القلبُ بيت الرب» .

<<  <  ج: ص:  >  >>