للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: في «كاد» ضمير الشأن، أو يرتفع بها قلوبُ.

يقول الحق جلّ جلاله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ أي: برأه وطهره من الذنوب، كقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «١» ، وَتاب على الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ مما عسى أن يكون ارتكبوه إذ لا يخلو العبد من ذنب أو عيب. وقيل: هو حض على التوبة، وإظهار لفضلها، بأنها مقام الأنبياء والصالحين.

وقيل: تاب عليهم من نقص المقامات التي ترقوا عنها، إلى ما هو أكمل منها، فما مِنْ أَحَدٍ إلاّ ولَهُ مقام يستنقص بالنسبة إلى ما فوقه.

وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه: ذكر توبة من لم يذنب لئلا يستوحش من أذنب، لأنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم، والمهاجرين والأنصار، ولم يذنبوا، ثم قال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، فذكر من لم يذنب ليؤنس من قد أذنب، فلو قال أولاً: لقد تاب على الثلاثة لتفطرت أكبادهم. هـ.

ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ، يعني: حين محاولة غزوة تبوك. والساعة هنا بمعنى الحين والوقت، والعسرة: الشدة والضيق، أي: الذين خرجوا معه وقت العسرة والضيق، فقد كانوا في عسرة الظهر، يعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة الزاد حتى قيل: إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة واحدة. مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عن الثبات على الإيمان، أو عن اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لما رأوا من الشدة والضيق وشدة الحر، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ كرره للتأكيد، وللتنبيه على أنه تاب عليهم لأجل ما كابدوا من العسر، إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث قَبَلهم، وتاب عليهم، وتاب على الثلاثة، وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر ولا نفاق، ولا قصد للمخالفة، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم عتب عليهم، وأمر الناس ألا يكلموهم، وأن يعتزلوا نساءهم، فبقوا على ذلك خمسين ليلة، ثم أنزل الله توبتهم. وقد وقع حديثهم في البخاري ومسلم «٢» وكتب السير.

ومعنى قوله: الَّذِينَ خُلِّفُوا أي: تخلفوا عن الغزو. وقال كعب بن مالك: خلفوا عن قبول العذر، وليس بالتخلف عن الغزو، ويقوي ذلك كونه جعل: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ غاية للتخلف، أي: خلفوا عن قبول العذر، وأخروا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي: برحبها وسعتها، وذلك لإعراض الناس


(١) من الآية ٢ من سورة الفتح.
(٢) انظر البخاري فى (تفسير سورة التوبة، باب: قوله تعالى: (وعلى الثلاثة ألين خلفوا..) ، ومسلم فى (التوبة، حديث توبة كعب ابن مالك وصاحبيه) .

<<  <  ج: ص:  >  >>