للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول الحق جلّ جلاله: ما كانَ يصح لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، ولا لمن حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ في غزوة ولا سرية ولا غيرهما، وهو نهي بصيغة النفي للمبالغة. وَلا ينبغي لهم أن يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ بأن يصونوها من اقتحام المشقات والمتاعب التي تحملها نبي الله صلى الله عليه وسلّم، حيث قعدوا عنه، ولم يكابدوا معه ما كابده من الأهوال.

رُوي أن أبا خَيْثمة دخل بستانه، بعد خروجه- عليه الصلاة والسلام- لتبوك، وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظِلّ ظَلِيلٌ، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في الضِّحّ «١» والريح، ما هذا بخير، فقام، فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يقطع السراب، فقال: كن أبا خيثمة، فكأنهُ «٢» ، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلّم، واستغفر له «٣» .

ثم علل النهي بقوله: ذلِكَ إشارة إلى النهي عن التخلف المفهوم من الكلام، بِأَنَّهُمْ أي:

بسبب أنهم لا يُصِيبُهُمْ في سفرهم ظَمَأٌ من حر العطش، أو عطش، وَلا نَصَبٌ تعب، وَلا مَخْمَصَةٌ مجاعة، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ يدوسون بأرجلهم أو بدوابهم مَوْطِئاً مكاناً يَغِيظُ الْكُفَّارَ أي: يغيظهم ذلك الوطء، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا كالقتل، والأسر، والنصب، وكل ما ينكبهم، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، أي: إلا استوجبوا به ثواباً جزيلاً. وذلك مما يوجب النهوض إلى الغزو معه صلّى الله عليه وسلّم فإن اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم. وهو تعليل لقوله: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ.. الخ.

وفيه تنبيه على أن الجهاد إحسان، إما في حق الكفار فلأنه سعى في تكميلهم بأقصى ما يمكن، كضرب المُداوي للمجنون، وإما في حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم على الإسلام. قاله البيضاوي.

وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً في امر الجهاد، ولو علاقة سيف، وَلا كَبِيرَةً مثل ما أنفق عثمان رضى الله عنه في جيش العسرة، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً في سيرهم، وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ذلك، ولم يضعْ منه شيء، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بذلك أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، أي: جزاء أحسن أعمالهم، أو أحسن جزاء أعمالهم. قاله البيضاوي.


(١) الضّح- بالكسر: ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض ... راجع النهاية ٨٧.
(٢) أي: فكان هو.
(٣) أخرجه بنحوه البيهقي فى الدلائل (باب لحوق أبى ذر وأبى خيثمة برسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد خروجه) . وانظر الفتح السماوي (٢/ ٧٠٧- ٧٠٨) .

<<  <  ج: ص:  >  >>