للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً: رقباء مطلعين عليه ظاهراً وباطناً، إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ: حين تخوضون فيه وتندفعون إليه، يقال: أفاض الرجل في الأمر: إذا أخذ فيه بجد واندفع إليه، ومنه: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ «١» ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ أي: ما يغيب عنه مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ: ما يوازن نملة، فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ والمراد: لا يغيب عنه شيء في الوجود بأسره، وخصهما لأن العامة لا تعرف غيرهما. قال في الكشاف: فإن قلت: لِمَ قدَّم هنا الأرض بخلاف سورة سبأ»

؟ فالجواب: أن السماء قدمت في سبأ لأن حقها التقديم، وقدمت الأرض هنا لما ذكرت الشهادةُ على أهل الأرض. هـ. وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي: اللوح المحفوظ، أو علمه تعالى المحيط، المُبيّن للأشياء على ما هي عليه.

الإشارة: هذه الآية وأمثالها هي أصل المراقبة عند القوم، وهي على ثلاثة أقسام: مراقبة الظواهر، ومراقبة القلوب، ومراقبة السرائر. فالأولى للعوام، والثانية للخواص، والثالثة لخواص الخواص.

فأما مراقبة الظواهر: فهي اعتقاد العبد أن الله يراه، ومطلع عليه في كل مكان، فينتجُ له الحياء من الله، فيستحيي أن يسيء الأدب معه وهو بين يديه، وفي بعض الأخبار القدسية: «إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخَللُ في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلِمَ جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟» .

وقال- عليه الصلاة والسلام-: «أفضل الناس إيماناً من يعلم أن الله معه في كل مكان» أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم:

ورُوي إنَّ عبد الله بن عمر رضى الله عنه مرَّ براعي غنم، فقال له: أعطنا شاة من غنمك، فقال له: ليست لى. فقال له: قل لصاحبها أكلها الذئب، فقال له الراعي: وأين الله؟!. ورُويَ أن رجلاً خلا بجارية فراودها على المعصية، وقال لها:

لا ترانا إلا الكواكب، فقالت له: وأين مُكوكُبها؟.

وأما مراقبة القلوب فهي: تحقيق العبد أن الله مطلع على قلبه، فيستحي منه أن يجول فيما لا يعني، أو يدبر ما لا يفيد ولا يجدي، أو يهم بسوء أدب فإنْ جال في ذلك استغفر وتاب.

وأما مراقبة السرائر فهي: كشف الحجاب عن الروح، حتى ترى الله أقرب إليها من كل شيء، فتستحي أن تجول فيما سواه من المحسوسات، فإن فعلت بادرت إلى التوبة والاستغفار، فالتوبة لا تفارق أهل المراقبة مطلقاً، وقد تقدم في أول سورة النساء «٣» بعض الكلام على المراقبة، فمَن لم يُحْكِم أمر المراقبة، لم يذق أسرار المشاهدة.


(١) من الآية ١٩٨ من سورة البقرة.
(٢) فى قوله تعالى «عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا في الأرض ... » الآية: ٣.
(٣) راجع إشارة الآية الأولى من سورة النساء.

<<  <  ج: ص:  >  >>