للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وخافوا ربهم أن يبعدهم من حضرته، أو يناقشهم الحساب فحاسبوا أنفسهم على الأنفاس والأوقات، وصبروا على دوام المجاهدات، حتى أفضوا إلى فضاء المشاهدات، وأقاموا صلاة القلوب- وهي العكوف فى حضرة الغيوب- وأنفقوا مما رزقهم من سعة العلوم ومخازن الفهوم، ويقابلون الإساءة بالإحسان لأنهم أهل مقام الاحسان. أولئك لهم عقبى الدار وهي العكوف في حضرة الكريم الغفار، تدخل على أبواب قلوبهم المواهبُ والأسرار، تقول بلسان الحال: سلام عليكم بما صبرتم في مجاهدتكم، فنعم عقبى الدار.

ثم شفع بضدهم، فقال:

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]

وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)

يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ... الذي أخذه عليهم في عالم الذَّرِّ، حيث قال:

أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «١» ، ثم كفروا به بعد بعث الرسل المنبهين عليه. أو ينقضون العهود فيما بينهم وبين عباد الله، أن أعطوا ذلك من أنفسهم، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الأرحام، أو ممن يدلّ على الله من الأنبياء، والعلماء الأتقياء فإنَّ الله أمر بوصلهم، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالظلم والمعاصي، وتهييج الفتن، أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ: البُعد والطرد من رحمة الله، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ: سوء عاقبة الدار، وهو العذاب والهوان، حيث اغتروا في الدنيا بسعة الأرزاق، وظنوا أن ذلك من علامة إقبال الحق.

ولم يدروا أن الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ، ولو كان من أهل الشقاء، وَيَقْدِرُ يُضيقه على مَن يشاء، ولو كان من أهل السعادة والعناية، وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا واطمأنوا بها، وقنعوا بنعيمها الفاني، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا في جنب الآخرة إِلَّا مَتاعٌ إلا متعة لا تدوم، كعُجَالة الراكب وزاد الراعي. وفى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:

«مَا لي وللدُّنْيَا، إِنَّما مَثَلي ومثلُ الدُّنيا كَرَاكبٍ سَافَرَ في يَوْمٍ صَائِفٍ، فاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرةٍ، ثم رَاحَ عَنْها وَتَركَهَا» «٢» . والمعنى: أنهم أشِروا بما نالوا من الدنيا، ولم يصرفوها فيما يستوجبون به نعيم الآخرة، واغتروا بما هو في جنبه نزر قليل النفع، سريع الزوال. قاله البيضاوي.


(١) من الآية ١٧٢ من سورة الأعراف.
(٢) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (١/ ٣٠١) والحاكم (٤/ ٣٠٩) وصححه ووافقه الذهبي من حديث ابن عباس رضى الله عنه، قال: دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير، قد أثر فى جنبه، فقال: يا نبيَّ اللهِ لو اتخذت فراشا أوثر من هذا؟ فقال:
مالى وللدنيا..» الحديث.

<<  <  ج: ص:  >  >>