للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال له تعالى لَمَّا امتنع واستكبر: فَاخْرُجْ مِنْها أي: من السماء، أو من الجنة، أو من زمرة الملائكة، فَإِنَّكَ رَجِيمٌ: مطرود من الخير والكرامة فإنَّ من يُطرد يُرجم بالحجر، أو شيطان يُرجم بالشُهب، فهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته، أي: ليس الشرف بالأصل، إنما الشرف بالطاعة والقرب. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ:

الطرد والإبعاد إِلى يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء، ثم يتصل باللعن الدائم. وقيل: إنما حد اللعن لأنه أبعد غاية يضربها الناس، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن، فيصير كأنه زال عنه ذلك اللعن.

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي: أخرني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، أراد أن يجد فسحة في الإغواء، ونجاة من الموت، إذ لا موت بعد وقت البعث، فأجابه إلى الأول دون الثاني، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ:

المعين فيه أجلك عند الله، وانقراض الناس كلهم، وهو النفخة الأولى عند الجمهور.

وهذه المخاطبة، وإن لم تكن بواسطة، لا تدل على منصب إبليس لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال. قاله البيضاوي. وجزم ابن العربي، في سراج المريدين، بأن كلام الحق تعالى إنما كان بواسطة، قال:

لأن الله لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس، فكيف يكلم من تولى إضلالهم. هـ. وتردد المازُريُّ في ذلك وقال: لا قاطع في ذلك، وإنما فيه ظواهر، والظواهر لا تفيد اليقين. ثم قال: وأمّا قوله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ:

فيحتمل أن يكون بواسطة أو بغيرها، تقول العرب: كلمت فلاناً مشافهة، بالكلام، وتارة بالبعث. هـ. قلت: الظاهر أنه كلمه بلا واسطة من وراء حجاب، كلامَ عتابٍ وإهانة، كما يوبخ الكفار يوم القيامة، مع أن الواسطة محذوفة عند المحققين، وإن وُجِدَتْ، صُورَةً.

ثم قال: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي: بسبب إغوائك لي، لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وقيل: الباء للقسم، أي:

بقدرتك على إغوائي، لأزينن لهم المعاصي والكفر في الدنيا، التي هي دار الغرور. قال ابن عطية: قوله:

رَبِّ: مع كفره، يُخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق، وهذا لا يدفع في صدر كفره. وقال، على قوله: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ: ليس هذا موضع كفره عند الحذاق لأن إبايته إنما هي معصية فقط، أي: وإنما كفره لاعتراضه لأمر الحق واستكباره. وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن آدم مفضول، وقد أمره أن يسجد لمن هو أفضل منه، فرأى أن ذلك جور، فقاس وأخطأ، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله تعالى المالك للجميع. هـ. مختصراً. وقال المازري: أما كفر إبليس فمقطوع به لقوله: اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ «١» ثم قال: ويؤكده قوله: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي، وقوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ... الآية «٢» ، وغير ذلك من ظواهر ما يدل على كفره.


(١) من آية ٣٤ من سورة البقرة.
(٢) الآية ٨٥ من سورة (ص) .

<<  <  ج: ص:  >  >>