للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ التي هي علم الشرائع، أو معرفة الحق لذاته، والعلم للعمل به.

وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، كرره، للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه، وأنه رأس الحكمة وملاكها، ومن عُدِمَهُ لم تَنْفَعْهُ علومه وحِكمه، ولو جمع أساطير الحكماء، ولو بلغت عنان السماء. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد: غيره ممن يتصور منه ذلك. ورتب عليه، أولاً: ما هو عاقبة الشرك في الدنيا، وهو: الذم والخذلان، وثانيًا:

ما هو نتيجته في العقبى. فقال: فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً تلوم نفسك، وتلومك الملائكة والناس، مَدْحُوراً مطرودًا من رحمة الله.

ثم قبَّح رأيهم في الشرك، فقال: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ، وهو خطاب لمن قال: الملائكة بنات الله.

والهمزة للإنكار، أي: أفخصَّكم ربكُم بأفضل الأولاد، وهم البنون، وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً بناتٍ لنفسه، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً أي: عظيم النكر والشناعة، لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ في إيجاب العقوبة لخرمه لقضايا العقول، بحيث لا يجترئ عليه أحد حيث تجعلونه تعالى من قبيل الأجسام المتجانسة السريعة الزوال، ثم تضيفون إليه ما تكرهونه، وتُفضلون عليه أنفسكم بالبنين، ثم جعلتم الملائكة، الذين هم أشرف الخلق، أدونهم، تعالى الله عن قولكم علوًا كبيرًا.

الإشارة: ينبغي للإنسان الكامل أن يكون في أموره كلها على بينة من ربه، فَيُحَكِّمُ على ظاهره الشريعة المحمدية، وعلى باطنه الحقيقة القدسية، فإذا تجلى في باطنه شيء من الواردات أو الخواطر فليعرضه على الكتاب والسُنَّة، فإن قبلاه أظهره وفعله، وإلاَّ رده وكتمه، كان ذلك الأمر قوليًا أو فعليًا، أو تركًا او عقدًا فقد انعقد الإجماع على أنه لا يحل لامرئٍ مسلم أن يُقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، وإليه الإشارة بقوله: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فإن لم يجد نصًا في الكتاب أو السنة فليستفت قلبه، إن صفا من خوض الحس، وإن لم يَصْفُ فليرجع إلى أهل الصفاء، وهم أهل الذكر. قال تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «١» ، ولا يستفت أهل الظنون، وهم أهل الظاهر، قال تعالى: إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «٢» .

وقال القشيري في تفسير الآية هنا: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي: جانب محاذاة الظنون، وما لم يُطْلِعْكَ الله عليه، فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان. فإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ في حكم الوقت، فارجع إلى الله،


(١) من الآية ٤٣ من سورة النحل، ومن الآية ٧ من سورة الأنبياء.
(٢) من الآية ٣٦ من سورة يونس.

<<  <  ج: ص:  >  >>