للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بتبيلغ الرسالة، كسائر الرسل. وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله على أيديهم، حسبما يلائم حال قومهم، ولم يكن أمر الآيات إليهم، ولا لهم أن يتحكموا على ربهم بشيء منها.

وَما مَنَعَ النَّاسَ أي: الذين حكِيتْ أباطيلهم، أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي: الوحي، وهو ظرف لمنع، أو يؤمنوا، أي: وما منعهم وقت مجيئ الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان، أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك، إِلَّا أَنْ قالُوا أي: إلا قولهم: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا، منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر. وليس المراد أن هذا القول صدر من بعضهم فمنع بعضًا آخر منهم، بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل، المستتبع بهذا المقول منهم. وإنما عبَّر عنه بالقول إيذانًا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير روية، ولا مصداق له في الخارج. وقصر المانع من الإيمان فيما ذكر، مع أن لهم موانع شتى، إما لأنه معظمها، أو لأنه المانع بحسب الحال، أعني: عند سماع الجواب بقوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ، من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية.

قُلْ لهم من قِبَلنا تثبيتًا للحكمة، وتحقيقًا للحق المزيح للريب: لَوْ كانَ أي: لو وُجد واستقر فِي الْأَرْضِ بدل البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ قارين ساكنين فيها، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا يهديهم إلى الحق لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه. وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة مع الملائكة لأنها منوطة بالتناسُب والتجانس، فبعث الملائكة إليهم مناقض للحكمة التي يدور عليها أمر التكوين والتشريع. وإنما يبعث الملك إلى الخواص، المختصين بالنفوس الزكية، المؤيدة بالقوة القدسية، فيتلقون منهم ويُبلغون إلى البشر.

قُلْ كَفى بِاللَّهِ وحده شَهِيداً على أني أديتُ ما عليَّ من مواجب الرسالة، وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد. فهو شهيد بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وكفى به شهيدًا، ولم يقل: بيننا تحقيقًا للمفارقة، وإبانة للمباينة، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ من الرسل والمرسل إليهم، خَبِيراً بَصِيراً محيطًا بظواهر أعمالهم وبواطنها، فيجازيهم على ذلك. وهو تعليل للكفاية. وفيه تسلية للرسول- عليه الصلاة والسلام- وتهديد للكفار، والله تعالى أعلم.

الإشارة: طلب الكرامات من الأولياء جهل بطريق الولاية، وسوء الظن بهم، إذ لا يشترط في تحقيق الولاية ظهور الكرامة، وأيُّ كرامة أعظم من كشف الحجاب بينهم وبين محبوبهم، حتى عاينوه وشاهدوه حقًا، وارتفعت عنهم الشكوك والأوهام، وصار شهود الحق عندهم ضروريًا، ووجود السِّوَى محالاً ضروريًا، فلا كرامة أعظم من

<<  <  ج: ص:  >  >>