للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يموت، قَبْلَ هذا الوقت الذي لقيتُ فيه ما لقيت، وإنما قالته، مع أنها كانت تعلم ما جرى لها مع جبريل عليه السلام من الوعد الكريم استحياء من الناس، وخوفًا من لائمتهم، أو جريًا على سنن الصالحين عند اشتداد الأمر، كما روى عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تِبْنَةً من الأرض، فقال: «ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئًا» . وقال بلال: (ليت بلالاً لم تلده أمه) . ثم قالت: وَكُنْتُ نَسْياً «١» أي: شيئًا تافهًا شأنه أن يُنسى ولا يُعتد به، مَنْسِيًّا لا يخطر ببال أحد من الناس. وقُرئ بفتح النون، وهما لغتان نِسي ونَسْي، كالوَتْر والوِتْر. وقيل: بالكسر: اسم ما ينسى، وبالفتح: مصدر.

فَناداها أي: جبريل عليه السلام مِنْ تَحْتِها، قيل: إنه كان يقبل الولد من تحتها، أي: من مكان أسفل منها،.

وقيل: من تحت النخلة، وقيل: ناداها عيسى عليه السلام، ويرجحه قراءة من قرأ بفتح الميم، أي: فخاطبها الذي تحتها:

أَلَّا تَحْزَنِي، أو: بألا تحزني، على أن «أن» مفسرة، أو مصدرية، حذف عنها الجار. قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ أي: بمكان أسفل منك سَرِيًّا أي: نهرًا صغيرًا، حسبما رُوي مرفوعًا. «٢» قال ابن عباس رضى الله عنهما: (أن جبريل عليه السلام ضرب برجله الأرض، فظهرت عين ماء عذب، فجرى جدولاً) . وقيل: فعله عيسى، أي: ضرب برجله فجرى، وقيل: كان هناك نهر يابس- أجرى الله تعالى فيه الماء، كما فعل مثله بالنخلة، فإنها كانت يابسة لا رأس لها، فأخرج لها رأسًا وخُوصًا وتمرًا. وقيل: كان هناك نهرُ ماء. والأول أظهر لأنه الموافق لبيان إظهار الخوارق، والمتبادر من النظم الكريم.

وقيل: (سَرِيًّا) أي: سيدًا نبيلاً رفيعَ الشأن جليلاً، وهو عيسى عليه السلام، والتنوين حينئذ للتفخيم. والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي. والتعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية.

ثم قال: وَهُزِّي إِلَيْكِ أي: حركي النخلة إليك، أي: جاذبة لها إلى جهتك. فهَزُّ الشيء: تحريكه إلى الجهات المتقابلة تحريكًا عنيفًا، والمراد هنا ما كان بطريق الجذب والدفع. والباء في قوله: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ:

صلة للتأكيد، لقول العرب: هزَّ الشيء وهز به، أو للإلصاق. فإذا هززت النخلة تُساقِطْ «٣» أي: تتساقط.

وقُرئ: تساقِطَ، وتُسْقِط، أي: النخلة عليك إسقاطًا متواترًا بحسب تواتر الهز رُطَباً جَنِيًّا أي: طريًّا، وهو ما قطع قبل يبسه. فعيل بمعنى مفعول، أي: مجنيًا صالحًا للاجتناء. فَكُلِي من ذلك الرطب


(١) قرأ حفص وحمزة بفتح النون، والباقون بكسرها.. انظر الإتحاف (٢/ ٢٣٥) .
(٢) أخرج المرفوع الطبراني فى المعجم الصغير (١/ ٢٤٤) من حديث البراء بن عازب، وأخرجه فى الكبير (١٢/ ٣٤٦ ح ١٣٣٠٣) من حديث ابن عمر.
(٣) هذه قراءة نافع، وابن كثير، وأبى عمرو، وابن عمرو، والكسائي. وقرأ حفص «تساقط» بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف.
وقرأ حمزة «تساقط» بفتح التاء والقاف وتخفيف السين، والأصل: تتساقط. انظر: التبصرة/ ٢٥٦، والإتحاف (٢/ ٢٣٥) .

<<  <  ج: ص:  >  >>