للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلا مَن تاب ورجع إلى ما كان عليه أسلافه، من العلم النافع والعمل الصالح، والتواضع للصالح والطالح، فيرافقهم في جنة الزخارف أو المعارف، التي وعد الرحمن عباده المخصوصين بالغيب، ثم صارت عندهم شهادة، إنه كان وعده مأتيًا، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا لأن الحضرة مقدسة عن اللغو، (إِلَّا سَلاماً) لسلامة صدورهم، ولهم رزقهم فيها من العلوم والأسرار والمواهب، في كل ساعة وحين، لا يرث هذه الجنة إلا من اتقى ما سوى الله، وانقطع بكليته إلى مولاه. وبالله التوفيق.

ولما أبطأ الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا جبريل ما يَمنعُكَ أن تزورنَا أكثرَ مما تزورنا؟» فنزل «١» :

[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]

وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)

قلت: وجه المناسبة لما قبله- والله اعلم-: أن الحق جلّ جلاله لما سرد قصص الأنبياء وما نشأ بعدهم، وكان جبريل هو صاحب وحيهم الذي ينزل به عليهم، ذكر هنا أن نزوله ليس باختياره، فقال: وَما نَتَنَزَّلُ ... الخ.

يقول الحق جلّ جلاله، حاكيًا لقول جبريل عليه السلام: وَما نَتَنَزَّلُ عليك يا محمد إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، وذلك حين أبطأ الوحى عنه صلى الله عليه وسلم، لما سئل عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، فلم يدر كيف يجيب، ورجا أن يوحي إليه فيه، فأبطأ عليه أربعين يومًا. قاله عكرمة. وقال مجاهد: ثنتي عشرة ليلة، أو خمس عشرة. فشقَّ على النبي صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة. وقال: يا جبريل قد اشتقت إليك، فقال جبريل: إني كنت أَشْوَق، ولكني عبد مأمور، إذا بُعثتُ نزلت، وإذا حُبست احتَبَستُ، فأنزل الله هذه الآية وسورة الضحى «٢» ، والتنزل: النزول على مَهَل، وقد يُطلق على مطلق النزول، والمعنى: وما نتنزل وقتًا غِبّ وقتٍ «٣» إلا بأمر الله تعالى، على ما تقتضيه حكمته.

وقيل: هو إخبار عن أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها مخاطبين بعضهم لبعض بطريق التبجح والابتهاج، أي: ما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر الله تعالى ولطفه، وهو مالك الأمور كلها، سالفها ومُتَرَقَّبُهَا وحاضرها، فما وجدناه وما نجده هو من لطفه وفضله. هـ. قلت: ولا يخفى حينئذ مناسبته.

ثم قال: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ أي: وما نحن فيه من الأماكن والأزمنة، فلا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل في زمان دون زمان، إلا بأمره ومشيئته، وعن مقاتل: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا من


(١) أخرجه البخاري فى (التفسير- سورة مريم) وفى (التوحيد، باب وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) من حديث ابن عباس.
(٢) أخرجه الطبري فى تفسيره (١٦/ ١٠٣) ، وعزاه ابن حجر فى الكافي الشافي لأبى نعيم فى الدلائل.
(٣) غب بمعنى بعد، ومنه قولهم: غب سلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>