للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَنَذْكُرَكَ بأن نصِفك بما يليق بك من صفات الكمال، ذكرًا كَثِيراً، إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً أي: عالمًا بأحوالنا، وبأن ما دعوناك به مما يصلحنا ويقوينا على ما كلفتنا من أداء الرسالة، و (بِنا) : متعلق ببصيرًا.

والله تعالى أعلم.

الإشارة: فإذا انخلعت أيها الفقير عن الكونين، وألقيت عصاك بوادي البيْن، فاذهب إلى فرعون نفسك ووجود حسك، إنه طغى عليك، حيث حجبك عن شهود ربك، فلا حجاب بينك وبين ربك، إلا حِجاب نفسك، ووقوفك مع شهود حسك، فهو أكبر الفراعين في حقك، فاهدم وجوده، وأَغْرِقْ في بحر الحقيقة شهودَه، وذلك بالغيبة عنه في شهود مولاه، فإذا تعسر الأمر عليك فاستعن بمولاك، وقل: اللهم اشرح لي صدري، ووسعه لمعرفتك، ويسر لي أمري في السير إلى حضرة قدسك، واحلل عقدة الكون من قلبي ولساني، حتى لا أعقد إلا على محبتك، ولا أتكلم إلا بذكرك وشكرك، كما قال الشاعر:

فإن تكلمتُ لم أنطق بغيركم ... وإن صَمَتُّ فأنتم عَقْدُ إضماري.

واجعل لي وزيرًا من أهلي، وهو شيخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري، حتى يتوجه بكلية همته إلى سري، كي ننزهك تنزيهًا كثيرًا، بحيث لا نرى معك غيرك، ونذكرك كثيرًا، بحيث لا نفتر عن ذكرك بالقلب أو الروح أو السر، إنك كنت بنا بصيرًا. قال الورتجبي: قوله تعالى: (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ..) الخ، لما علم موسى مراد الحق منه بمكابدة الأعداء، والرجوع من المشاهدة إلى المجاهدة، سأل من الحق شرح الصدر، وإطلاق اللسان، وتيسير الأمر، ليطيق احتمال صحبة الأضداد ومكابدتهم. ثم قال: فطلب قوةَ الإلهية وتمكينًا قادريًا بقوله: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) ، عرف مكان مباشرة العبودية أنها حق الله، وحق الله في العبودية مقام امتحان، وفي الامتحان حجاب عن مشاهدة الأصل، فخاف من ذلك، وسأل شرح الصدر، أي: إذا كنتُ في غين الشريعة عن مشاهدة غيب الحقيقة، اشرح صدري بنور وقائع المكاشفة، حتى لا أكون محجوبًا بها عنك. ألا ترى إلى سيد الأنبياء والأولياء صلوات الله عليه، كيف أخبر عن ذلك الغين، وشكى من صحبة الأضداد في أداء الرسالة، بقوله: «إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة» هـ. وفيه مقال «١» ، إذ هو غين أنوار لا غين أغيار، فتأمله. والله تعالى أعلم.

ثم أجاب الحق جل جلاله سؤاله، فقال:

[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٦ الى ٤١]

قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)

وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)


(١) بل فيه مقالات، فالشريعة يستحيل أن تكون غينا، والله تعالى يقول فيها ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها ويقول:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ... ويقول: وكذلك جعلناه نورا فشريعته روح ونور.

<<  <  ج: ص:  >  >>