للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: والذي يظهر أن الطاغية فَهِمَ قوله تعالى: ثُمَّ هَدى أي: إلى الإيمان، فاعترض بقوله: فما بال القرون الأولى لم تؤمن حتى هلكت؟ فأجابه موسى عليه السلام بقوله: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، فهو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمَن اهتدى. وقوله: فِي كِتابٍ أي: اللوح المحفوظ، فقد أثبتت فيه بتفاصيلها، ويجوز أن يكون ذلك عبارة عن تمكنه وتقريره في علم الله- عزّ وجلّ- تمكن من استحفظ الشيء، وقيده بالكتابة، كما يَلوحُ به قوله تعالى: لا يَضِلُّ رَبِّي أي: لا يخطئ ابتداء، وَلا يَنْسى فيتذكر. وفيه تنبيه على أن كتابته في اللوح المحفوظ ليس لحاجته إليه في العلم به ابتداء أو بقاءًا. وإظهار (رَبِّي) في موضع الإضمار، للتلذذ بذكره، وللإشعار بعلّية الحكم فإن الربوبية مما تقتضي عدم الضلال والنسيان.

ولقد أجاب عليه السلام عن السؤال بجواب عبقري بديع، حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها، مع أنه لم يخرج عما كان بصدده من بيان شئونه تعالى، ووصف الحق تعالى بأوصاف لا يمكن عدو الله أن يتصف بشيء منها، لا حقيقة ولا مجازاً، ولو قال له: هو الخالق الرازق، وشبه ذلك، لأمكن أن يغالط ويدعي ذلك لنفسه.

ثم تخلص إليه حيث قال، بطريق الحكاية عن الله عزّ وجل، أو من كلامه عليه السلام: الذي جعل لكم الأرض مهادا «١» أي: كالمهد تتمهدونها بالسكن والقرار، أي: جعل كل موضع منها مهدًا لكل واحد منكم. وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي: طُرقًا تتوصلون بها من قطر إلى قطر، لتقضوا منها مآربكم، وتنتفعوا بمرافقها ومنافعها، ووسطها بين الجبال والأودية لتعرف أمارات سُبلها. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر، فَأَخْرَجْنا بِهِ، يحتمل أن يكون من كلام الله، وما قبله من كلام موسى، أو كله من كلام الله تعالى، حكاه موسى عليه السلام، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة، والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن، أي: فأخرجنا بذلك الماء أَزْواجاً: أصنافًا، سميت أزواجًا لازدواجها، واقتران بعضها ببعض، كائنة مِنْ نَباتٍ شَتَّى: متفرقة، جمع شتيت: أي: متفرق، وهو، في الأصل، مصدر، يستوي فيه الواحد والجمع، يعني: أنها مختلفة في الشكل واللون والطعم والرائحة والنفع، وبعضها صالح للناس على اختلاف صلاحها لهم، وبعضها للبهائم.

ومن تمام نعمته تعالى أن أرزاق عباده، لمَّا كان تحصيلها بعمل الأنعام، جعل عَلفَها مما يفضل عن حاجتهم، ولا يليق بكونه طعامًا لهم، وهو معنى قوله: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ، والجملة: حالٌ، على إرادة القول، أي: أخرجنا منها أصناف النبات، قائلين: كلوا وارعوا أنعامكم، آذنين فى ذلك لكم.


(١) قرأ عاصم وحمزه والكسائي: (مهدا) . وقرأ باقى السبعة: «مهادا» : انظر الإتحاف (٢/ ٢٤٧) .

<<  <  ج: ص:  >  >>