للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: (هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) : نصب على إسقاط الخافض، اتساعًا، لا نصب على الظرفية لأن الظرف المختص لا ينتصب على الظرفية، على المشهور، و (الَّذِي فَطَرَنا) : عطف على (ما جاءَنا) ، أو قَسَمٌ حُذف جوابه، أي: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك.. الخ.

يقول الحق جلّ جلاله، حاكيًا عن السحرة، لمَّا خوفهم فرعونُ: قالُوا غير مكترثين بوعيده: لَنْ نُؤْثِرَكَ أي: لن نختارك، باتباعك عَلى ما جاءَنا منَّ الله تعالى على يد موسى عليه السلام مِنَ الْبَيِّناتِ أي:

المعجزات الظاهرة لأن ما ظهر من العصا كان مشتملاً على معجزات جمة، كما تقدم. وَالَّذِي فَطَرَنا: خلقنا وخلق سائر المخلوقات، أي: لن نختارك على ما ظهر لنا من دلائل صحة نبوة موسى، ولا على الذي خلقنا، حتى نتبعك ونترك الحق، وكان ما شاهدوه آية حسية، وهذه آية عقلية. وإيراده بعنوان فاطريته تعالى للإشعار بعِلِّية الحكم، فإن خالقيته تعالى لهم ولفرعون- وهو من جملة مخلوقاته- مما يوجب عدم إيثارهم له عليه سبحانه، أو: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على ما جاءنا، فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي: فاصنع ما أنت صانعه، أو: فاحكم ما أنت حاكمه. وهو جواب لقوله: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ..) الخ. إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي: إنما تصنع ما تهواه، أو تحكم ما تراه في هذه الحياة الدنيا الفانية، ولا رغبة لنا في البقاء فيها، رغبة في سكنى الدار الدائمة، بسبب موتنا على الإيمان.

إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا التي اقترفنا، من الكفر والمعاصي، ولا يؤاخذنا بها في الآخرة، فلا نغتر بتلك الحياة الفانية، حتى نتأثر بما أوعدتنا به من القطع والصلب، وَيغفر لنا أيضًا ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ الذي عملناه في معارضة موسى عليه السلام، بإكراهك وحشرك لنا من المدائن القاصية، وخصوه بالذكر، مع اندراجه في خطاياهم إظهارًا لغاية نفرتهم عنه، ورغبة في مغفرته، وفي ذكره الإكراه: نوع اعتذار لاستجلاب المغفرة، وقيل: أرادوا الإكراه على تعلم السحر، لما رُوي أن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط، والباقي من بني إسرائيل، وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر، وقيل: إنه أكرههم على المعارضة، حيث رُوي أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائمًا، ففعل، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر، فإن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه. لكن يأباه تصديهم للمعارضة بالرغبة والنشاط، كما يُعرب عنه قولهم:

إِنَّ لَنا لَأَجْراً.. «١» الخ، وقولهم: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ «٢» ، إلا أن يُقال: لما رأوا جدَّهُ طمعوا وطلبوا الأجر. وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي: وثواب الله خير من إيثار الدنيا الفانية، وأبقى في الدار الباقية، أو: والله في ذاته خير، وجزاؤه أبقى، نعيمًا كان أو عذابا.


(١) من الآية ١١٣ من سورة الأعراف.
(٢) من الآية ٤٤ من سورة الشعراء.

<<  <  ج: ص:  >  >>