للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال تعالى: وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً مكرًا عظيمًا في الإضرار، فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أي: أخسر من كل خاسر، حيث جاء سعيهم في إطفاء نور الحق برهانًا قاطعًا على أنه عليه السلام على الحق، وهم على الباطل، وموجبًا لارتفاع درجته واستحقاقهم للهلاك، فأرسل الله على نمرود وقومه البعوض، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، ودخلت بعوضة في دماغ نمرود فأهلكته بعد المحنة الشديدة، وبالله التوفيق.

الإشارة: أجرى الله تعالى عادته في المتوجه الصادق، إذا أراد الوصول إلى حضرته، أن يبْتَليه قبل أن يُمكنه، ويمتحنه قبل أن يُصافيه لأنَّ محبته تعالى مقرونة بالبلاء، والداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. فإذا رُمِيَ الولي في منجنيق الابتلاء، وألقي في نار الجلال، وتعرضت له الأكوان: ألك حاجة؟ فيقول- إن كان مؤيَدًا-: أمَّا إليك فلا، وأما إلى الله فبلى، فإذا قيل له: سله، فيقول: علمه بحالي يغني عن سؤالي. فلا جرم أن الله تعالى يقول لنار الجلال: كوني بردًا وسلامًا على وليي، فينقلب حرها بردًا وسلامًا، فلا يرى أيامًا أحلى من تلك الأيام التي ابتُلي فيها. وهذا أمر مجرب مَذُوق، وأما إن التفت إلى التعلق بغير الله تعالى، فإنَّ البلاء يُشدد عليه، أو يخرج من دائرة الولاية، والعياذ بالله. فالولي هو الذي يقلب الأعيان بهمته، وبالنور الذي في قلبه، حسية كانت أو معنوية، فيقلب الخوف أمنًا، والحزن سرورًا، والقبض بسطًا، والفاقة غنًى، وهكذا.. فحينئذ تنفعل له الأشياء وتطيعه، وتخرق له العوائد، حتى لو ألقي في النار الحسية لبردت. قال الورتجبي: كان الخليل منُورًا بنور الله، وكان فعل النار من فعل الله، فغلب نور الصفة على نور الفعل، ولو بقيت النار حتى وصل إليها الخليل لصارت مضمحلة، فعلم الحق ذلك، فقال لها: (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) حتى تبقى لظهور معجزته وبيان كرامته. هـ.

ومصداق ما ذكره: قول النار يوم للقيامة للمؤمن: جُز فقد أطفأ نورك لهبي «١» ، كما ورد. والله أعلم.

ثم ذكر هجرة إبراهيم إلى الشام، فقال:

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧١ الى ٧٢]

وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢)

قلت: «إلى الأرض» : يتعلق بحال محذوفة، ينساق إليها الكلام، أي: ذاهبًا بهما إلى الأرض.

يقول الحق جلّ جلاله: وَنَجَّيْناهُ أي: إبراهيم وَلُوطاً ابن أخيه هاران، ذاهبًا بهما من العراق إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ، وهي أرض الشام. وبركاته العامة: أنَّ أكثر الأنبياء بُعثوا فيها، فانتشرت في العالمين شرائعهم، التي هي مبادئ الخيرات الدينية والدنيوية، وهي أرض المحشر، فيها يجمع الناس،


(١) أخرجه الخطيب فى تاريخ بغداد (٥/ ١٩٤) وأبو نعيم فى الحلية (٩/ ٣٢٩) ، عن يعلى بن منبه، وقال فى مجمع الزوائد (١٠/ ٣٦٠) : رواه الطبراني، وفيه سليم بن منصور بن عمار، وهو ضعيف.

<<  <  ج: ص:  >  >>