للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: (وَداوُدَ) : عطف على (نُوحاً) ، أو معمول لاذكر، و (إِذْ يَحْكُمانِ) : ظرف للمضاف المقدر، أي: اذكر خبرهما، و (إِذْ نَفَشَتْ) : ظرف للحكم. (فَفَهَّمْناها) : عطف على (يَحْكُمانِ) فإنه في حكم الماضي.

يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر خبر داوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ أي: وقت حكمهما فِي الْحَرْثِ أي: في الزرع، أو في الكرم المتدلي عناقيده، والحرث يطلق عليهما، إِذْ نَفَشَتْ: دخلت فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ فأفسدته ليلاً، فالنفش: الرعي بالليل، والهمَلُ بالنهار، وهما الرعي بلا راع. وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ أي: لهما وللمتحاكمين إليهما، أو على أنَّ أقل الجمع اثنان، شاهِدِينَ، كان ذلك بعلمنا ومرأى منا، لم يغب عنا شيء منه، فَفَهَّمْناها أي: الحكومة، أو الفتوى، سُلَيْمانَ، وفيه دليل على أنَّ الصواب كان مع سليمان.

وقصتهما على ما قال ابن عباس وغيره: أن رجلين دخلا على داود عليه السلام، أحدهما: صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: إنَّ هذا نفشت غنمه ليلاً، فوقعت في حرثي، فلم تُبق منه شيئًا، فقال له داود:

اذهب فإن الغنم لك، ولعله استوت قيمتاهما- أي: قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث- فخرج الرجلان على سليمان، وهو بالباب، وكان ابن إحدى عشرة سنة، فأخبراه بما حكم به أبوه، فدخل عليه، فقال: يا نبيَّ اللهِ لو حكمت بغير هذا لكان أرفق بالفريقين، قال: وما هو؟ قال: يأخذ صاحبُ الغنم الأرضَ ليُصلحها، حتى يعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنمَ ينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإذا كمل الزرع، رُدت الغنم إلى صاحبها، والأرض بزرعها إلى ربها، فقال داود: وُفقت يا بُني، وقضى بينهما بذلك.

والذي يظهر: أن حكمهما- عليه السلام- كان باجتهاد، ففيه دليل على أن الأنبياء يجتهدون فيما لم ينزل فيه وحي، فإنَّ قول سليمان عليه السلام: «هَذَا أرفق» ، وقوله: «أرى أن تدفع..» الخ، صريح في أنه ليس بطريق الوحي، وإلا لبت القول بذلك، ولعله وجه حكم داود عليه السلام قياس ذلك على جناية العبد، فإنَّ العبد فيما جنى. وإذا قلنا: كان بوحي، يكون حكم سليمان ناسخًا لحكم داود عليه السلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>