للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ أي: ما أدري لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا امتحان لكم لينظر كيف تعملون، أو استدراج لكم، وزيادة في افتتانكم، وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي: تمتع لكم إلى حين موتكم ليكون حجة عليكم، أو إلى أجل مقدر تقتضيه المشيئة المبنية على الحِكَم البالغة.

قالَ «١» رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي: اقض بيننا وبين كفار مكة بالعدل، المقتضي لتعجيل العذاب. فهو كقول شعيب عليه السلام: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «٢» ، أو بما يحق عليهم من العذاب، واشدد عليهم، كقوله صلى الله عليه وسلم:

«اللهم اشدد وطأتك على مُضَرَ» «٣» ، وقد استجيب دعاؤه- عليه الصلاة والسلام-، حيث عُذبوا ببدر أيّ تعذيب. وقرأ الكسائي وحفص: قالَ حكاية لدعائه صلى الله عليه وسلم. ثم استعان بالله على إبطال ما كانوا يؤملون من النصرة لهم، وتكذيبهم في ذلك، فقال: وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ كثير الرحمة على عباده، الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ من كون الغلبة لكم. كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه، وكانوا يطمعون أن تكون الشوكة والغلبة لهم، فكذب الله ظنونهم، وخيّب آمالهم، وغيّر أحوالهم، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم، وخذلهم لكفرهم. وبالله التوفيق.

الإشارة: قال الشيخ أبو العباس المرسي رضى الله عنه: الأنبياء- عليهم السلام- خُلقوا من الرحمة، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو عين الرحمة، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ. هـ. وقال أيضًا: الأنبياء- عليهم السلام- لأممهم صدقة، ونبينا صلى الله عليه وسلم لنا هدية. قال صلى الله عليه وسلم: «وأنا النعمة المهداة» ، فالصدقة للفقراء، والهدية للكبراء. ثم إن غاية الرحمة:

الوصول إلى التوحيد الخاص لأنه سبب الزلفى من الله والاختصاص، ولذلك أمره به، بعد أن جعله رحمة، فقال:

قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ... الخ. فمَن أعرض عنه فقد أوذن بالبُعد والطرد. ولعل تأخير العقوبة عنه، في الدنيا، استدراج ومتاع إلى حين.

ثم إن الصارف عن الدخول إلى التوحيد الخاص- وهو توحيد العيان-: القواطع الأربع: النفس، والشيطان، والدنيا، والهوى. زاد بعضهم: الناس- أي: عوام الناس، فإذا حكم الله بين العبد وبين هذه القواطع، وصل إلى صريح المعرفة. قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي: احكم بيني وبين عدوي بحكمك الحق، حتى تدفعه عني وتدمغَهُ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ به عَلى ما تَصِفُونَ من التعويق والتشغيب. والله المستعان، وعليه أتوكل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.


(١) قرأ حفص (قال) بصيغة الماضي- وقرأ الباقون (قل) ، انظر الإتحاف (٢/ ٢٦٨) .
(٢) من الآية ٨٩ من سورة الأعراف.
(٣) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (الدعوات، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة) ، ومسلم فى (المساجد، باب استحباب القنوت فى جميع الصلاة) عن أبى هريرة رضى الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>