للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: (أفلم) : الفاء عطف على مقدر أي أَغفلوا فلم يسيروا فيعتبروا، (فإنها) : ضمير القصة، أو مبهم يُفسره ما بعده. و (لن يخلف الله وعده) : حالية، أي: ينكرون مجيء العذاب الموعود، والحال: أنه تعالى لا يخلف وعده، أو اعتراضية مُبينة لما ذكر، و (إنَّ يومًا) : استئنافية، إن كانت الأولى حالية، ومعطوفة، إن كانت اعتراضية سيقت لبيان خطأهم.

يقول الحق جلّ جلاله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فيروا مصارعَ من أهلكهم اللهُ بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم الدارسة وقصورهم الخالية، وديارهم الخربة، فيعتبروا. وهو حث لهم على السفر ليشاهدوا ذلك. فَتَكُونَ لَهُمْ بسبب ما شاهدوه من مظان الاعتبار ومواطن الاستبصار قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ما يجب أن يُعقل من التوحيد ونحوه، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب أن يُسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورُهم من الناس فإنهم أعرف بحالهم. قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق إهلاك الأمم السالفة، وبقيت آثارهم خرابًا، عقبه بذم هؤلاء في عدم اتعاظهم بذلك. والسير في الأرض: إمَّا حسي، أو معنوي باعتبار سماع أخبارها من الغير، أو قراءتها في الكتب. فقوله: (فتكون لهم قلوب) : راجع للسير الحسي، وقوله: (أو آذان) للسير المعنوي. هـ.

فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ الحسية، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ عن التفكر والاعتبار، أي: ليس الخلل في مشاعرهم، ولكن الخلل في عقولهم، باتباع الهوى والانهماك في الغفلة. وذكر الصدور للتأكيد، ونفي توهم التجوز لأن قلب الشيء: لبه، فربما يقال: إن القلب يراد به غير هذا العضو، ولكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه، وعينان في قلبه، وتسمى البصيرة، فإن انفتح ما في القلب، وعمي ما في الرأس فلا يضر، وإن انفتح ما في الرأس وانطمس ما في القلب لم ينفع، والتحق بالبهائم، بل هو أضل.

ثم ذكر علامة عمى القلوب، وهو الاستهزاء بالوعد الحق، فقال: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ المتوعد به استهزاء وإنكارًا وتعجيزًا، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي: يستعجلون به، والحال أنه تعالى لا يخلف وعده أبدًا، وقد سبق الوعد به، فمن لا يخلف وعده فلا بد من مجيئه، ولو بعد حين. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي: كيف يستعجلونك بعذاب من يومْ واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم لأن أيام الشدة طُوال. وقيل: تطول حقيقة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «يَدْخُلُ الفُقَرَاءُ الجَنَّةَ قِبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْم، وذَلِكَ خمسمائة سنة» «١» .


(١) أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قيل أغنيائهم) ، وابن ماجة فى (الزهد، باب منزلة الفقراء) ، من حديث أبى هريرة، وأبى سعيد الخدري رضى الله عنهما. وبنحوه أخرجه أبو داود فى (العلم، باب فى القصص) من حديث أبي سعيد الخدري.

<<  <  ج: ص:  >  >>