للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كفضاء (بقيعَةٍ) بأرض منبسطة، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ يظنه العطشان ماء حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أي: لم يجده كما ظنه ورجاه، بل خاب مطمعه ومسعاه، وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي: وجد جزاء الله، أو حُكمه، عند عمله، أو عند جزائه، فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي: أعطاه جزاءه كله وافياً، وإنما وحّد، بعد تقديم الجمع، حملاً على كل واحد من الكفار.

وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب العباد في ساعة لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد، ولا يشغله حساب عن حساب، أو قَرِيبٌ حسابُه لأنَّ كل آتٍ قريبٌ. شبه ما يعمله الكفرة من البر، الذي يعتقد أنه ينفعه يوم القيامة وينجيه من عذاب الله، ثم يخيب في العاقبة أَملُهُ، ويلقى خلاف ما قدّر، بسراب يراه الكافر بالساهرة، وقد غلبه عطش يوم القيامة، فيحسبه ماء، فيأتيه، فلا يجد ما رجاه، ويجد زبانية الله، فيأخذونه إلى جهنم، فيسقونه الحميم والغساق. قيل: هم الذين قال الله فيهم: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ «١» ، ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «٢» . قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، كان ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، والتمس الدين، فلما جاء الإسلام كفر. هـ.

ثم ضرب مثلاً لأعمالهم في الدنيا، فقال: أَوْ كَظُلُماتٍ، «أو» : للتنويع، فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق كثير الماء، منسوب إلى اللج، وهو معظم ماء البحر، يَغْشاهُ أي: يغشى البحر، أو مَن فيه، أي: يعلوه ويغطيه بالكلية، مَوْجٌ هو ما ارتفع من الماء، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي: من فوق الموج موج آخر، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ من فوق الموج الأعلى سحاب، ظُلُماتٌ أي: هذه ظلمات ظلمة السحاب، وظلمة الأمواج، وظلمة البحر، بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ظلمة الموج على ظلمة البحر، وظلمة الموج على ظلمة الموج الأسفل، وظلمة السحاب على الموج، وهذا أعظمُ للخوف وأقربُ للعطب، لأنه يغطي النجوم التي يهتدي بها ويشتد معه الريح والمطر، وذلك يؤكد التلف، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ أي: الواقع فيه، أو مَن ابْتُلِيَ بها، لَمْ يَكَدْ يَراها مبالغة في «لم يرها» أي: لم يقرب أن يراها، فضلاً عن أن يراها. شبّه أعمالهم، في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة، وخلوها عن نور الحق، بظلماتٍ متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب.

قال ابن جُزَيّ: لمَّا ذكر حال المؤمنين عَقَّبَ ذلك بمثالين لأعمال الكفار الأول: يقتضي حال أعمالهم في الآخرة، وأنها لا تنفعهم، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب. والثاني: يقتضي حال أعمالهم في الدنيا، وأنها في غاية الفساد والضلال، كالظلمة التي بعضها فوق بعض. ثم قال: وفي وصف هذه الظلمات مبالغة، كما أن فى


(١) الآية ٣ من سورة الغاشية.
(٢) الآية ١٠٤ من سورة الكهف.

<<  <  ج: ص:  >  >>