للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْ يا محمد: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض، يعني: أن القرآن: لما اشتمل على علم الغيوب، التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم من غير تعلم إلهي، دلَّ على أنه من عند علام الغيوب، أي: ليس ذلك مما يُفْتَرَى ويختلق، بإعانة قوم، وكتابة آخرين من الاحاديث والأساطير المتقدمة، بل هو أمر سماوي، أنزله الذي لا يعزب عن علمه شيء، أودع فيه فنون الحِكَم والأحكام، على وجه بديع، لا تحوم حوله الأفهام، حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته، وأخبركم بأمور مغيبات، وأسرار مكنونات، لا يهتدي إليها ولا يوقف عليها إلا بتوقيف العليم الخبير، ثم جعلتموه إفكاً مفترى، واستوجبتم بذلك أن يصبَّ عليكم العذاب صباً، لولا حِلمه ورحمته، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فأمهلكم، ولم يعاجلكم بالعقوبة. وهو تعليل لما هو المشاهد من تأخير العقوبة عنهم، أي: كان أزلاً وأبداً مستمراً على المغفرة والرحمة، فلذلك لم يعاجلكم بالعقوبة على ما تقولون في حقه وفي حق رسوله، مع كمال اقتداره.

ثم ذكر طعنهم فيمن نُزل عليه، فقال: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ وقعت اللام في المصحف مفصولة عن الهاء، وخط المصحف سُنّة لا يغير. وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم، كأنهم قالوا: أي شيء لهذا الزاعم أنه رسول يأكل الطعام كما تأكلون، ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما تمشون، أي: إن صح ما يدعيه فما له لم يخالف حالنا؟! لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ على صورته فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، وهذا منهم تنزل عن اقتراح كونه صلى الله عليه وسلم ملكاً مستغنياً عن المادة الحسية، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يُصدقه، ويكون ردءاً له في الإنذار، ويُعبر عنه، ويفسر ما يقوله للعامة.

أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ من السماء، يستغني به عن طلب المعاش معنا، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ بستان يَأْكُلُ مِنْها كالأغنياء المياسير. والحاصل: أنهم أول مرة ادعوا أن الرسول لا يكون إلا كالملائكة، مستغنياً عن الطعام والشراب، وتعجبوا من كون الرسول بشراً، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك يُصدقه ويعينه على الإنذار، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون معه كنز، يستظهر به على نوائبه، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون رجلاً له يستان يأكل منه، كالمياسير، أو نأكل نحن منه، على قراءة حمزة والكسائي.

قال تعالى: وَقالَ الظَّالِمُونَ وهم الكفرة القائلون ما تقدم، غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه. وهم كفار قريش، أي: قالوا للمؤمنين: إِنْ تَتَّبِعُونَ ما تتبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً قد سُحر فغلب على عقله، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي: انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقاويل العجيبة، الخارجة عن العقول، الجارية لغرابتها، مجرى الأمثال، واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة، البعيدة عن الوقوع؟! فَضَلُّوا عن طريق الجادة فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فلا يجدون طريقاً إليه، أو:

فلا يجدون سبيلاً إلى القدح في نبوتك، بأن يجدوا قولاً يستقرون عليه، أو: فضلّوا عن الحق ضلالاً مبيناً، فلا

<<  <  ج: ص:  >  >>