للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثانية واواً. ولم يقل: لهي الحياة لِمَا في بناء فَعَلاَن من معنى الحركة والاضطراب. وفي المصباح: الحيوان:

مبالغة في الحياة، كما قيل: للموت الكثير: مَوَتَان. هـ. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ حقيقة الدارين لَمَا اختاروا اللهو الفاني على الحيوان الباقي.

فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ، هو مرتب على محذوف، دلَّ عليه ما وصفهم به قَبْلُ، والتقدير: هم على ما هم عليه من الشرك والعناد، وإذا ركبوا في الفلك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، أي: كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون معه إلهاً آخر، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ، وأمنوا من الغرق، إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ، أي: عادوا إلى حال الشرك، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعمة، وَلِيَتَمَتَّعُوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها. واللام فيهما: إما لاَمُ كي، أي: يعودون إلى شركهم ليكونوا به كافرين بنعمة النجاة، قاصدين التمتع بها والتلذذ، لا غير، على خلاف عادة المؤمنين المخلصين، فإنهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم، ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى توحيده وطاعته، لا إلى التلذذ والتمتع. أو: لام الأمر، على وجه التهديد، كقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «١» ، ويقويه: قراءةُ مَنْ سَكَّنَ الثانية «٢» ، أي: ليكفروا وليتمتعوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تدبيرهم عند تدميرهم.

الإشارة: الدنيا عند أهل الجد والاجتهاد جد، يتوصلون فيها إلى معرفة الحق، ويترقون منها إلى أسرار ومعارف لا يحصرها عقل ولا يحيط بها نقل، لأن في هذه الدار: عرفه من عرفه، وجَهِلَهُ من جهله. والترقي عند العارفين فيها أكثر لأنه يسير بين جلاله وجماله، وهناك ليس إلا الجمال، والترقي بين الضدين أعظم، فإذا مات بقي يترقى في أنوار الجمال على قدر ما أدرك هنا. والله أعلم.

فتحصل أن الدنيا في حق أهل الغفلة لعب ولهو لأنها شغلتهم وغرتهم بزخارفها عن معرفة الله والوصول إليه، ولذلك حذّر منها صلى الله عليه وسلم، فقد قال في بعض خطبه: «أيها الناس، لا تكونوا ممن خَدَعَتْهُ العاجلة، وغرته الأمنية، واستهوته الخدعة، فركن إلى دار سريعة الزوال، وشيكة الانتقال إذ لن يبقى من دنياكم هذه في جنب ما مضى إلا كإناخة راكب، أو درّ حالب، فعلام تعرجون؟ وما تنتظرون؟ فكأنكم، والله، بما قد أصبحتم فيه من الدنيا، كأن لم يكن، وما تصيرون إليه من الآخرة، لم يزل، فخذوا في الأهْبة لأزُوف النقلة، وأعدوا الزاد لقرب الرحلة، واعلموا أن كل امرئ على ما قَدَّمَ قادِمٌ، وعلى ما خَلَّفَ نادمٌ» . وفي حق أهل الجد جدٌ وحق لأنها مزرعة للآخرة، ومتجر من أسواق الله، فيها ربحهم وغنيمتهم. وبالله التوفيق.


(١) من الآية ٢٩ من سورة الكهف.
(٢) قرأ قالون وابن كثير وحمزة والكسائي (وليتمتعوا) بسكون اللام، على أنها للأمر، وقرأ الباقون بكسرها، إما للأمر، أو لام كى، والأصل فى كل الكسر. انظر الإتحاف (٢/ ٣٥٣) والبحر المحيط (٧/ ١٥٥) .

<<  <  ج: ص:  >  >>