للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: (حنيفاً) : حال من (الدين) ، أو: من الأمور، وهو ضمير (أقم) ، و (فطرة) : منصوب على الإغراء.

يقول الحق جلّ جلاله، لنبيه صلى الله عليه وسلم، أو: لكل سامع: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي: قوّم وجهك له، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ عنه يميناً ولا شمالاً. وهو تمثيلٌ لإقباله على الدين بكُلِّيته، واستقامته عليه، واهتمامه بأسبابه فإنَّ من اهتم بالشيء توجه إليه بوجهه، وسدّد إليه نظره، حَنِيفاً أي: مائلاً عن كل ما سواه من الأديان، فِطْرَتَ اللَّهِ أي: الزموا فطرة الله. والفطرة: الخلقة: أَلاَ ترى إلى قوله: لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ؟ فالأرواح، حين تركيبها في الأشباح، كانت قابلة للتوحيد، مُهَيَّأَةً له، بل عالمة به بدليل إقرارها به في عالم الذر، حتى لو تُركوا لَما اخْتَارُوا عليه ديناً آخر، ومَن غوى فإنما غوى منهم بإغواء شياطين الإنس والجن. وفي حديث قدسي: «كُلٌّ عِبَادي خَلَقْتُ حنيفاً، فاجتالتَهُمْ الشّيَاطِينُ عنْ دِينهمْ، وأمَرُوهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي غيري» «١» ، وفي الصحيح: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَد على الفطرة، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصّرَانِهِ أوْ يُمجِّسَانِهِ» «٢» قال الزجّاج: معناه: أن الله تعالى فطر الخلق على الإيمان به، على ما جاء في الحديث: «إن الله عز وجل أخرج من صلب آدم ذريته كالذرّ، وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم، فقالوا: بلى» «٣» ، وكل مولود فهو من تلك الذرية التي شهدت بأن الله تعالى رَبُّهَا وخالقها. هـ. قال ابن عطية: الذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة: أنها الخِلقة والهيئة في نفس الطفل، التي هي مهيئة لمعرفة الله والإيمان به، الذي على الإعداد له فطرَ البشر، لكن تعرض لهم العوارض على حسب ما جرى به القدر، ولا يلزم من الإعداد وجعله على حالة قابلة للتوحيد ألا يساعده القدر، كما في قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «٤» ، أي: خلقهم معَدين لذلك، فأمر من ساعده القدر، وصرف عن ذلك من لم يُوفق لما خلق له. هـ.

فقوله في الحديث: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَد عَلَى الفِطْرَةِ» أي: على القابلية والصلاحية للتوحيد، ثم منهم من يتمحض لذلك، كما سبق في القدر، ومنهم من لم يوفق لذلك، بل يخذل ويُصرف عنه لما سبق عليه من الشقاء.

وقال في المشارق: أي: يخلق سالماً من الكفر، متهيئاً لقبول الصلاح والهدى، ثم أبواه يحملانه، بَعْدُ، على ما سَبق له في الكتاب. هـ. قال ابن عطية: وذِكْرُ الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة. ثم قال: وقد فطر الله


(١) أخرجه بنحوه، مطولا، مسلم فى (الجنة وصفه نعيمها، باب الصفات التي يعرف بها، فى الدنيا، أهلِ الجنَةِ وأهل النَّارِ ٤/ ٢١٩٧، ح ٢٨٦٥) من حديث عياض المجاشعي. ولفظه: «إنى خلقت عبادى حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. الحديث.
(٢) أخرجه البخاري فى (القدر، باب الله أعلم بما كانوا عاملين ح ٦٥٩٩) ، ومسلم فى (القدر، باب معنى كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَد على الفطرة، ٤/ ٢٠٤٧، ح ٢٦٥٨) بزيادة فى آخره، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه.
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (١/ ٢٧٢) وقال فى مجمع الزوائد (٧/ ٢٥) : رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
(٤) الآية ٥٦ من سورة الذاريات.

<<  <  ج: ص:  >  >>