للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أي: دار الإقامة لا نبرح عنها ولا نُفارقها. يقال: أقمت إقامة ومقاماً ومقامة، مِنْ فَضْلِهِ أي: من عطائه وإفضاله، لا باستحقاق أعمالنا، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ تعب ومشقة وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ إعياء وكَلَلَ من التعب، وفترة إذ لا تكليف فيها ولا كد. نفى عنهم أولاً التعب والمشقة، وثانياً ما يتبعه من الإعياء والملل.

وأخرج البيهقي: أن رجلاً قال يا رسول الله: إن النوم مما يُقِرُّ الله به أعيننا، فهل في الجنة من نوم؟ فقال: «إن النوم شريك الموت- أو أخو الموت- وإن أهل الجنة لا ينامون- أو: ليس في الجنة موت» . وفي رواية أخرى، قال: فما راحتهم؟ قال: «ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة» «١» ، فالنوم ينشأ من نصب الأبدان، ومِن ثِقل الطعام، وكلاهما منتفيان في الجنة.

قال الضحاك: إِذَا دَخَلَ أَهْلَ الجَنَّة الجنة، استقبلهم الولدان والخدم، كأنهم اللؤلؤ المكنون، فيبعث الله ملَكاً من الملائكة، معه هدية من رب العالمين، وكسوة من كسوة الجنة، فيلبسه، فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك: كما أنت، فيقف، ومعه عشرة خواتم، فيضعها في أصابعه، مكتوب: طبتم فادخلوها خالدين، وفي الثانية: ادخلوها بسلام، ذلك يوم الخلود، وفي الثالثة: رُفعت عنكم الأحزان والهموم، وفي الرابعة: وزوجناهم بحور عين، وفي الخامسة: ادخلوها بسلام آمنين، وفي السادسة: إني جزيتهم اليوم بما صبروا، وفي السابعة: أنهم هم الفائزون. وفي الثامنة: صرتم آمنين لا تخافون أبداً، وفي التاسعة: رفقتم النبيين والصديقين والشهداء، وفي العاشرة: سكنتم في جوار مَن لا يؤذي الجيران. فلما دخلوا قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.. إلى: لُغُوبٌ. هـ.

الإشارة: قال الورتجبي: الاصطفائية تقدمت الوراثة لمحبته ومشاهدته، ثم خاطبهم بما له عندهم وما لهم عنده. وهذا الميراث الذي أورثهم من جهة نسب معرفتهم به، واصطفائيته إياهم، وهو محل القرب والانبساط، لذلك قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا، ثم قسمهم على ثلاثة أقسام: ظالم، ومقتصد، وسابق. والحمد لله الذي جعل الظالم من أهل الاصطفائية. ثم قال: فالظالم عندي- والله أعلم- الذي وازى القدم بشرط إرادة حمل وارد جميع الذات والصفات، وطلب كنه الأزلية بنعت إدراكه، فأي ظالم أعظم منه؟ إذ طلب شيئاً مستحيلاً، ألا ترى كيف وصف سبحانه آدم بهذا الظلم بقوله: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا «٢» ، وهذا من كمال شوقه إلى حقيقة الحق، وكمال عشقه، ومحبة جلاله. هـ.


(١) عزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٤٧٦) لابن أبى حاتم، وابن مردويه، والبيهقي فى البعث، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.
(٢) الآية ٧٢ من سورة الأحزاب.

<<  <  ج: ص:  >  >>