للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإشارة: الجهاد على قسمين: جهاد أصغر وهو جهاد السيف، وجهاد أكبر وهو جهاد النفس، فيجاهدها أولاً في القيام بجميع المأمورات، وترك جميع المنهيات، ثم يجاهدها ثانياً في ترك العوائد والشهوات، ومجانبة الرخص والتأويلات، ثم يجاهدها ثالثاً في ترك التدبير والاختيار، والسكون تحت مجاري الأقدار، حتى لا تختار إلا ما اختار الحق تعالى لها، ولا تشتهي إلا ما يقضي الله عليها، فإن النفس جاهلة بالعواقب، فعسى أن تكره شيئاً وهو خير لها، وعسى أن تحب شيئاً وهو شر لها.

فعسى أن تأتيها المسار من حيث تعتقد المضارّ، وعسى أن تأتيها المضار من حيث ترجو المسار، وعسى أن تنتفع على أيدي الأعداء، وعسى أن تضر على أيدي الأحباء، وعسى أن تكره الموت وهو خير لها، وعسى أن تحب الحياة وهي شر لها، فالواجب تسليم الأمور إلى خالقها، الذي هو عالم بمصالحها، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، وهذا كله قبل تصفيتها وكمالها، وأما إذا تهذبت وكملت رياضتها، فالواجب اتباع ما يتجلى فيها، إذ لا يتجلى فيها إلا الحق، وهذا هو ثمرة الجهاد الأكبر، وأما الجهاد الأصغر فلا يحصل شيء من هذا، فلذلك كان مفضولا عند أهل الجهاد الأكبر «١» . وبالله التوفيق.

ولمَّا كان القتال محرماً في الأشهر الحرم في أول الإسلام، ووقع من بعض الصحابة، فندموا وتحرجوا، أزال الله ذلك الحرج عنهم، فقال:

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٧ الى ٢١٨]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)

قلت: (قتال) : بدل اشتمال من (الشهر الحرام) ، وقد وقع خبط في عطف (المسجد الحرام،) والصواب: ما قاله الزمخشري وابن عطية أنه عطف على (السبيل) إذ هو المتبادر من جهة المعنى، أي: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام أكبر جرماً من قتل السَّرِية في الشهر الحرام، والقواعد النحوية إنما هى أغلبية.


(١) لا يعنى هذا الغض من جهاد أعداء الدين، وقد كان للصوفية فيه دور كبير مهم ...

<<  <  ج: ص:  >  >>