للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النشوان من خراب الظاهر، وصدور الأحوال الغريبة، ونفعهما خاص عند خواص الخواص، لا يفهمه إلا الخواص، بل يجب كتمه عن غير أهله. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

ثم وقع سؤال ثالث عن قدر المنفق، فأشار إليه الحقّ جل جلاله بقوله:

وَيَسْئَلُونَكَ ماذا ...

قلت: (العفو) : ضد الجهد، وهو السهل، ويقال للأرض السهلة: عفو، والمراد: أن يُنفق ما تيسر بذله، ولا يبلغ به الجَهد، وهو خبر، أو مفعول، أي: هو العفو، أو ينفقون العفو.

يقول الحق جلّ جلاله: وَيَسْئَلُونَكَ ما القدر الذي ينفقونه؟ قُلْ لهم: هو الْعَفْوَ أي: السهل الذي لا مشقة في إعطائه، ولا ضرر على المعطي في فقده، رُوِي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقدر بَيْضة من الذهب، فقال:

خُذها عني صَدقَة، فأعرض عنه، حتى كَرَّر مِرَاراً، فقال: هاتها، مُغْضَبَا، فحذفها حذفاً لو أصابه لشجَّه، فقال:

«يأتي أحدكم بماله كله يتصدّق به، ويجلس يتكفَّفُ الناس، إنما الصدقةُ عن ظَهْرِ غِنَى» . قاله البيضاوي مختصراً.

قلت: وهذا يختلف باختلاف اليقين فقد تصدّق الصدّيق رضي الله عنه بماله كله، وعمر رضي الله عنه بنصف ماله، فأقرهما، ورَدّ فعلَ غيرهما، فدلَّ ذلك على أن العفو يختلف باختلاف الأشخاص، على حسب اليقين.

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي: مثل هذا التبيين الذي ذكرنا، (يُبين) لكم الآيات، حتى لا يترك لكم إشكالاً ولا وهماً، لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ بعقولكم، وتأخذون بما يعود نفعه عليكم، فتتفكرون

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٠]]

فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)

فِي الدُّنْيا وسرعة ذهابها وتقلبها بأهلها، إذا أقبلت كانت فتنة، وإذا أدبرت كانت حسرة، لا يفي طالبُها بمقصوده منها ولو ملكها بحذافيرها، ضيقة الزمان والمكان، عمارتها إلى الخراب، وشأنها إلى انقلاب، سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، فتزهدون فيها وترفعون همتكم عنها.

وفى الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم: «مَالِي وللدُّنْيَا، إِنَّما مَثَلي ومثلُ الدنيا كرجلٍ سَافَرَ في يَوْمٍ صَائِفٍ، فاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرةٍ، ثم رَاحَ وَتَرَكَها» . وفي صُحف إبراهيم عليه السلام: «عجبت لمَن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبت لمَن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمَن أيقن بالقدر كيف ينصب- أي: يتعب- عجبت لمَن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها كيف يطمئن إليها» . وأنشدوا:

<<  <  ج: ص:  >  >>