للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم ذكر المحل الذي يظهر فيه عدم استوائهما عياناً، وهو ما بعد الموت، فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، فتجتمعون عندنا، فنحكم بينكم. وقيل: كانوا يتريصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته، أي: إنكم جميعاً بصدد الموت، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ، فتحتجّ عليهم بأنك بلّغت الرسالة، واجتهدت في الدعوة، فتلزمهم الحجة لأنهم قد لجُّوا في العناد، فإذا اعتذروا بتقليد آبائهم لم يُقبل عذرهم. وقيل: المراد: الاختصام فيما دار بينهم في الدنيا. والأول أنسب.

الإشارة: لا يستوي القلب المشترك مع القلب المفرد الخالص لله، القلب المشترك تفرّقت همومه، وتشتت أنواره، بتشتيت شواغِله وعلائقه، وتفرّقت محبته، بتفرُّق أهوائه وحظوظه، والقلب المفرد اجتمعت محبته وتوفرت أنواره وأسراره بقدر تفرُّغه من شواغله وعلائقه. وفي الحِكَم: «كما لا يحب العمل المشترك، لا يحب القلب المشترك، العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشرك لا يُقبل عليه» . وقال أيضاً: «فرّغْ قلبك من الأغيار تملؤه بالمعارف والأسرار» .

وقيل للجنيد: كيف السبيل إلى الوصول؟ فقال: بتوبة تزيل الإصرار، وخوف يقطع التسويف، ورجاء يبعث على مسالك العمل، وبإهانة النفس، بقربها من الأجل، وبُعدها من الأمل. قيل له: وبمَ يتوصل إلى هذا؟ فقال:

بقلبٍ مُفرد، فيه توحيد مجرد. هـ.

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَن جعل الهموم هَمّاً واحداً- أي: وهو الله- كفاه اللهُ همَّ دنياه، ومَن تشعبت به الهمومُ لم يُبالِ اللهُ به في أي أودية الدنيا هلك» «١» وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْه أمْرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا ما قُسِمَ لَهُ، ومَن كَانَتِ الآخرةُ نيته، جَمَعَ اللهُ عليه أمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه، وأتتْهُ الدُنيَا وهي صاغرة» «٢» . ومَن كان الله همُّه بفنائه فيه جمع الله عليه سره، وأغناه به عما سواه، وخدمه الوجود بأسره، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوانُ معك» «٣» . والله تعالى أعلم.


(١) رواه الحاكم (٢/ ٤٤٣) «وصحّحه، ووافقه الذهبي» . والبيهقي فى الشعب (١٠٣٤٠) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجة بسند ضعيف، فى (المقدمة، ١/ ٩٥، ح ٢٥٧) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. [.....]
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٥/ ١٨٣) وابن ماجة فى (الزهد، باب الهم بالدنيا، ٢/ ١٣٧٥، ح ٤١٠٥) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وأخرجه، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، الترمذي فى (صفة القيامة والرّقائق، ٤/ ٥٥٤، ح ٢٤٦٥) .
(٣) حكمة عطائية، انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي/ ص ٣٣ حكمة ٢٤٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>