للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: والظاهر أنه تفنُّن «١» ، وفرار من تكرار لفظ الوحي إذ الموحى به هو قوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وهو الذي أوحي إلى نبينا- عليه الصلاة والسّلام. وقال أبو السعود: والتعبير عن ذلك عند نسبته صلّى الله عليه وسلم ب «الذي» لتفخيم شأنه من تلك الحيثية، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع [في] «٢» الآيات المذكورة- يعني في صدر السورة، من قوله: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ... وفي آخرها من قوله: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، ولِما في الإيحاء من التصريح برسالته- صلّى الله عليه وسلم- القامع لإنكار الكفرة. والالتفات إلى نون العظمة إظهاراً لكمال الاعتناء بإيحائه، وهو السر في تقديمه [على ما قبله] «٣» مع تقدمه عليه زماناً. وتقديم وصية نوح- عليه السلام- للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم ديناً قديماً- أي: فلا ينبغي إنكاره- وتوجيه الخطاب إليه- عليه الصلاة والسّلام- بطريق التلوين للتشريف، والتنبيه على أنه تعالى شرع لهم على لسانه عليه الصلاة والسّلام. هـ.

ثم فسَّر ما وصاهم به فقال: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي: دين الإسلام، الذي هو توحيد الله تعالى، وطاعته، والإيمان بكتبه ورسله، وبيوم الجزاء، وسائر أركان الإيمان. والمراد بإقامته: تعديل أركانه، وحفظه من أن يقع فيه زيغ، والمواظبة عليه، والتشمير في القيام به. وموضع «أن أقيموا» إما: نصب، بدل من مفعول «شرع» ، أو: رفع، خبر جواب عن سؤال مقدَّر، كأن قائلاً قال: وما ذاك؟ فقال: هو إقامة الدين. وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ولا تختلفوا في الدين، فالجماعة رحمة، والفرقة عذاب، والمراد: الاختلاف في الأصول، دون الفروع المختلفة حسب اختلاف الأمم باختلاف الأعصار، كما ينطق به قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «٤» .

كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أي: عظم وشقّ عليهم ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من التوحيد، ورفض عبادة الأصنام، الذي هو إقامة الدين، اللَّهُ يَجْتَبِي أي: يجلب ويجمع إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ بالتوفيق والتسديد، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ يُقبل على طاعته. فالاجتباء يرجع إلى تصديق القلب، والإنابة إلى توفيق الطاعة فى الظاهر.


(١) كتب على هامش النّسخة الأم مايلى: لا يا أستاذ ما هو بتفنن، بل هو مقصود لحكمة، ولو كان للتفنن لما كرر الوصية مرتين، وخص لفظ الوحى بسيد البشر صلّى الله عليه وسلم، ولا بدل «وصينا» الثانية بلفظ الأمر، كأمرنا وأوجبنا وفرضنا ونحو ذلك. فالحق أنه عبّر فى حق الأنبياء بالوصية دون الوحى للإشارة إلى أنهم مجرد نواب عنه صلّى الله عليه وسلم. هـ.
(٢) فى الأصول [من] .
(٣) فى تفسير أبى السعود [على ما بعده] .
(٤) فى الآية ٤٨ من سورة المائدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>