للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هوى» «١» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مهلكات شحٌّ مطاع، وهوىً متبع، وإعجابُ المرء بنفسه» «٢» وقال أيضاً: «الكِّيسُ من دانَ نَفْسَه، وعَمِلَ لِما بعد الموت، والعاجز من أتْبَعَ نفسه هواها، وتمنَّى على الله» «٣» ، وسيأتي في الإشارة تمامه.

ثم قال تعالى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي: خذله على علم منه، باختياره الضلالة، أي: عالماً بضلاله، وتبديله لفطرة الله التي فطر الناس عليها. وقيل: نزلت في أمية بن أبي الصلت، وكان عنده علم بالكتب المتقدمة، فكان ينتظر بعثة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، فلما ظهر، قال: ما كنتُ لأومن لرسول ليس من ثقيف، وأشعاره محشوة بالتوحيد، ولكن سبق له الشقاء، فلم يؤمن، وختم على سمعه فلا يقبل وعظاً وقلبه، فلا يعتقد حقاً، أي: لا يتأثر بالمواعظ، ولا يتفكر في الآيات والنُذر. وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أي: ظلمة مانعة من الاعتبار والاستبصار، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ من بعد إضلال الله إياه؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أفلا تتعظون، فتُسلمون الأمور إلى مولاها، يُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء.

الإشارة: حقيقة الهوى كل ما تعشقه النفس، وتميل إليه من الحظوظ العاجلة، ويجري ذلك في المآكل، والمشارب، والملابس، والمناكح، والجاه، ورفع المنزلة، فليجاهد العبد نفسه في ترك ذلك كله، حتى لا تحب إلا ما هو طاعة يقرب إلى الله، كما قال صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكُون هواه تابعاً لما جئتُ به» «٤» فإن كان في طريق الإرادة والتربية ترك كل ما تميل إليه نفسه وتسكن إليه، ولو كان طاعة، كما قال البوصيرى رضي الله عنه:

وَراعِها وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ ... وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المرعى فلا تُسِمِ

فإنَّ حلاوة الطاعة سموم قاتلة، يمنع الوقوف معها من الترقي إلى حلاوة الشهود ولذة المعرفة، وكذلك الركون إلى الكرامات، والوقوف مع المقامات، كلها أهوية تمنع مما هو أعلى منها من مقام العيان، فلا يزل المريد يُجاهد نفسه، ويرحلها عن هذه الحظوظ، حتى تتمحّض محبتها في الحق تعالى، فلا يشتهي إلا شهود ذاته الأقدس، أو ما يقضيه عليه، فإذا ظهر بهذا المقام لم تبقَ له مجاهدة ولا رياضة، وكان ملكاً حرّاً، فيقال له حينئذ:


(١) الحديث ذكره القرطبي فى تفسيره (٧/ ٦١٧٣) عن أبى أمامة.
(٢) أخرجه مطولا البزار (كشف الأستار/ ٨١) ، وأبو نعيم فى الحلية (٢/ ٢٤٣) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني فى الأوسط (ح ٥٧٥٤) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(٣) أخرجه أحمد (٤/ ١٢٤) وابن ماجه فى (الزهد، بات ذكر الموت والاستعداد له، ح ٤٢٦٠) والترمذي، وحسّنه فى (صفة القيامة والرّقائق، ح ٢٤٥٩) والحاكم (٤/ ٢٥١) «وصحّحه وأقره الذهبي» والطبراني فى الكبير (٧/ ٣٣٨، ح ٧١٤١) وابن المبارك فى الزهد (٥٦ ح ٢٥) من حديث شداد بن أوس.
(٤) أخرجه البغوي فى شرح السنة (٢١٣) والبغدادي فى تاريخ بغداد (٤/ ٣٦٩) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وقد بسط الكلام على هذا الحديث الحافظ ابن رجب فى «جامع العلوم والحكم» فراجعه إن شئت.

<<  <  ج: ص:  >  >>